الغلو
الغلو، هو الارتفاع ومجاوزة الحد للشيء، سواء أكان في المعتقدات الدينية أو غيرها. واستعمل اصطلاحاً بمعنى مجاوزة الحد المفترض للمخلوق والارتفاع به إلى مقام الألوهية.
والمراد من الغلو عند أهل البيت (عليهم السلام) هو مجاوزة الحدود والارتفاع بهم إلى مقام الألوهية. كما يظهر من الروايات التي تنهي عن تأليههم، أو رفعهم عن مقام العبودية لله تعالى، أو تفويض أمر الخلق إليهم، أو القول بأنهم أنبياء، ونحوها من التعبيرات التي يظهر منها تجاوز حدود مقاماتهم التي ثبتت لهم (عليهم السلام).
ظاهرة الغلو قديمة قدم الرسالات السماوية، إذ اختلفت استجابات المدعوين لتلك الرسالات فكان منهم الغلاة.
ولا شك أن طبيعة المجتمع وطبيعة ما فيه من صراعات، أدت إلى ظهور الغلو والفِرق الغالية وغيرها من الفرق، حيث أخذت كل فرقة دورها على صعيد الحياة الدينية والسياسية والفكرية.
معنى الغلو
- الغلو في اللغة
تدور الأحرف الأصلية لهذه الكلمة ومشتقاتها على معنى واحد يدل على مجاوزة الحد والقدر: قال ابن منظور: "غلا في الدين، والأمر يغلو غُلُواً: جاوز حده. وقال بعضهم: غلوت في الأمر غلواً إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت فيه. وفي الحديث: إياكم والغلو في الدين أي التشدد فيه ومجاوزة الحد".[١]
وقال الطريحي: "غلا في الدين غلواً من باب قعد: تصلب وتشدد حتى تجاوز الحد والمقدار".[٢]
وقال الراغب: "الغلو تجاوز الحد، يقال ذلك إذا كان في السعر غلاء".[٣]
وقال ابن فارس: "الغين واللام والحرف المعتل أصل صحيح يدل على ارتفاع ومجاوزة قدرٍ".[٤]
ويقال غلا غلاءً فهو غالٍ، وغلا في الأمر غلواً أي جاوز حده. وغلت القدر تغلي غلياناً، وغلوت بالسهم غلواً إذا رميت به أبعد مما تقدر عليه، ويقال غلا في الدين غلواً تشدد وتصلب حتى جاوز الحد.[٥]
وبهذا يتضح أن المعنى اللغوي للغلو، هو الارتفاع ومجاوزة الحد للشيء سواء أكان في المعتقدات الدينية أو غيرها.
- الغلو في الاصطلاح
لما كان المعنى الاصطلاحي يقوم على المعنى اللغوي ويخصص عموم اطلاقه، رجعنا إلى النصوص الواردة في الغلو من القرآن الكريم والروايات الواردة عن الأئمة عليهم السلام وأقوال العلماء.
- الغلو في القرآن الكريم
ورد لفظ الغلو في القرآن الكريم في موضعين:
الأول: قوله تعالى: قالب:قرآن.[٦]
بيّن أغلب المفسرين هذه الآية ومن بينهم السيد الطباطبائي في تفسير الميزان على أن ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيح عليه السلام أنه خطاب للنصارى، وإنما خوطبوا بأهل الكتاب -وهو لفظ مشترك- اشعاراً بأن تسميتهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله وبيّنه في كتبه. وربما أمكن أن يكون خطاباً لليهود والنصارى جميعاً. وقوله "إنما عيسى ابن مريم" تصريح بالاسم واسم الأم ليكون أبعد عن التفسير والتأويل بأي معنى مغاير وليكون دليلاً على كونه انسان ذي أم.[٧]
الثاني: قوله تعالى: قالب:قرآن.[٨]
ويظهر هنا خطاب آخر للنبي صلى الله عليه وآله بأمره أن يدعو أهل الكتاب إلى عدم الغلو في دينهم. والغالي المتجاوز عن الحد بالإفراط. ويقابله الفالي في طرف التفريط.[٩]
ذكر القرطبي في تفسيره: "ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه رباً. فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر".[١٠]
فالغلو في القرآن استعمل في معنى "مجاوزة الحد المفترض للمخلوق والارتفاع به إلى مقام الألوهية". أو التقصير إلى حد الرمي والقذف.
- الغلو في أحاديث أهل البيت (ع)
ورد الغلو في كلمات أئمة أهل البيت عليهم السلام عدد وافر من النصوص الروائية التي نهت وحذرت من المغالاة فيهم عليهم السلام، والارتفاع بهم إلى مقام الألوهية والربوبية. نشير إلى بعضها:
قال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام: "يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي: مُحبٌ مفرط ومبغض مفرط، وأنا أبرأ إلى الله تبارك وتعالى ممن يغلو فينا ويرفعنا فوق حدنا كبراءة عيسى ابن مريم عليه السلام من النصارى. قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). المائدة: 116 – 117. ثم قال: فمن ادّعى للأنبياء ربوبية، وادّعى للأئمة ربوبية أو نبوة أو لغير الأئمة إمامة، فنحن منه براء في الدنيا والآخرة".[١١]
عن الفضيل بن عثمان، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: "اتقوا الله وعظموا الله، وعظموا رسول الله صلى الله عليه وآله. ولا تفضلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله أحداً، فإن الله سبحانه وتعالى فضّله. وأحبّوا أهل بيت نبيكم حبّاً مقتصداً ولا تغلو ولا تفرقوا. ولا تقولوا ما لا نقول. فإنكم إن قلتم وقلنا، ومتم ومتنا، ثم بعثكم الله وبعثنا، فكنا حيث يشاء الله وكنتم".[١٢]
وقال صالح بن سهل، كنت أقول في الصادق عليه السلام ما تقول الغلاة، فنظر إليّ وقال: "ويحك يا صالح، إنّا والله عبيدٌ مخلوقون لنا ربٌّ نعبده، وإن لم نعبده عذّبنا".[١٣]
يتضح من مجموع هذه الروايات التي ذكرناها أن المراد من الغلو عند أهل البيت عليهم السلام هو مجاوزة الحدود والارتفاع بهم إلى مقام الألوهية. كما يظهر من هذه الروايات التي تنهي عن تأليههم أو رفعهم عن مقام العبودية لله تعالى، أو تفويض أمر الخلق إليهم أو القول بأنهم أنبياء، ونحوها من التعبيرات التي يظهر منها تجاوز حدود مقاماتهم التي ثبتت لهم عليهم السلام.
- الغلو في كلمات أعلام المسلمين
ورد تعريف الغلو في عدد من كلمات علماء الفريقين. منها:
- يقول الشيخ المفيد: "الغلو هو التجاوز عن الحد والخروج عن القصد، والافراط في حق الأنبياء والأئمة عليهم السلام".[١٤]
وقال في ذيل قوله تعالى: "لا تغلوا في دينكم" إن الله تعالى نهى عن تجاوز الحد في المسيح. وحذّر من الخروج عن القصد وجعل ما ادّعته النصارى فيه غلواً لتعديه الحد.[١٥]
- يقول الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل": "الغالية هؤلاء هم الذين غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقة، وحكموا فيهم بأحكام الإلهية، فربما شبّهوا واحداً من الأئمة بالإله وربما شبهّوا الإله بالخلق وفي على طرفي الغلو والتقصير، وإنما نشأت شبهاتهم من مذاهب الحلولية، ومذاهب التناسخية، ومذاهب اليهود والنصارى، إذ اليهود شبهت الخالق بالخلق والنصارى شبهت الخلق بالخالق".[١٦]
فالغلو موقف إنساني مبالغ فيه في قضية مبدئية أو في شخص مرتبط بهذه القضية. ويكون الغلو مع الشيء المبالغ فيه أو هذه تعبيراً عن الموافقة أو الرفض. فقد يغالي الإنسان بحبه واعجابه كما قد يغالي بكراهيته وعزوفه.
جذوره التاريخية
لما كانت ظاهرة الغلو ظاهرة فكرية دينية، فإن الإنسان هو السبب الرئيسي في تحركها حيث كان لتكوينه الفكري والحضاري أثره المباشر في عملية الصراع والتفاعل.
يستفاد من النصوص القرآنية أن ظاهرة الغلو قديمة قدم الرسالات السماوية، إذ اختلفت استجابات المدعوين لتلك الرسالات فكان منهم الغلاة. وما كان ارسال نوح عليه السلام إلا لوقوع قومه في الغلو حيث غلوا في مجموعة من الصالحين فأوصلوهم درجة الألوهية. ثم ظهر الغلو في بني إسرائيل وبلغوا فيه مبلغاً كبيراً، ومن أجل ذلك جاءت الآيتان اللتان ورد فيهما النهي عن الغلو، والخطاب فيها موجه إلى بني إسرائيل.
ولا شك أن طبيعة المجتمع وطبيعة ما فيه من صراعات، أدت إلى ظهور الغلو والفرق الغالية وغيرها من الفرق، حيث أخذت كل فرقة دورها على صعيد الحياة الدينية والسياسية والفكرية.
ولأجل تفسير ظاهرة الغلو في الإسلام يمكن القول بوجود عدد من العوامل لنشوء هذه الظاهرة. منها:
الأغراض السياسية
لما أصبح الإسلام قوياً واتسعت رقعته، أنذر الرسول بالرحيل إلى الرفيق الأعلى، وجعل الخليفة من بعده الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في بيعة غدير خم. وهذا الأمر قوّض نفوس بعض الصحابة فطمع عدد من الأشخاص بالخلافة بُعيد وفاة رسول الله وقبل تجهيزه كل من المهاجرين والأنصار فصدر منهم ما صدر وحدث ما حدث في سقيفة بني ساعدة وحُرِفت وصية رسول الله صلى الله عليه وآله، واغتصبوا الخلافة والتي هي حق شرعي سماوي من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
وفي غضون ربع قرن على وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، شهد العالم الإسلامي آنذاك صراعاً سياسياً حاداً بين كبار الصحابة ومن ثم كبار التابعين، ليكون ثمرة هذا الصراع تشكيل اللبنة الأولى للأفكار والعقائد التي برزت في خلافة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام، لتشكل فيما بعد أبرز المذاهب والأحزاب السياسية آنذاك.
وبعد خلافة أمير المؤمنين عليه السلام سعى كثير من الحكام إلى الحط من مكانة أهل البيت عليهم السلام عند الناس، ومحاولة الصاق التهم بهم، من قبيل القول بتأليههم ووصفهم ببعض الصفات الإلهية ونحوها من النعوت الخارجة عن حد البشرية. كان ذلك للتقليل من شأنهم ومكانتهم وتكفيرهم بغية تفريق الناس من حولهم، لأن التفاف الناس حول أهل البيت عليهم السلام يهدد عرش الحكام والمتسلطين على رقاب الناس.[١٧]
الانحطاط الفكري
كان هم المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وآله تدارس القرآن الكريم والسنة النبوية في مجال الأحكام الشرعية والتعامل اليومي، يتأملون فيها ويستخرجون المبادئ والأحكام ويخاطبون الأمم المختلفة. وامتنعوا عن الجدل في العقيدة لنهي النبي صلى الله عليه وآله وصحابته عنه. فصفت العقائد مع قلة الوقائع والاختلافات بين الناس لقرب عهدهم بعصر الرسالة، وتمكنهم من الرجوع إلى الثقات.[١٨]
وما إن توسعت رقعة الدولة الإسلامية وامتدت حركة الإسلام شرقاً وغرباً حتى انضم إلى الإسلام عدد كبير من أهل المدن التي انتشر فيها الإسلام. فجابه المسلمون مشاكل متعددة. بعضها عقدية ناتجة عن احتكاكهم بالأديان والثقافات الأجنبية، وبعضها الآخر عملية تستدعي حلولاً فقهية بغية تنظيم العلاقات المتجددة والأوضاع الناتجة عن انتشار الإسلام، فما كان إلا أن تلاحقت الحوادث وتعددت الحياة الإسلامية فبدأت الفتن والمنازعات بين المسلمين.[١٩]
ثم إن عدم الوعي وفقدان القدرة على عدم فهم حقيقة العبودية والانبهار بكرامات الأنبياء والأئمة عليهم السلام وعدم التمييز والتمحيص للأحاديث الموضوعة التي وضعها المدّلسون كان من العوامل وراء نشأة ظاهرة الغلو.[٢٠]
ولا نهمل كثرة الوضع والوضاعين في أحاديث رسول الله وظهور حركات الزندقة في داخل المجتمع الإسلامي والتي تعود بشكل أو بأخر للواقع السياسي. كل هذه الأمور ساهمت في ظهور وانتشار ظاهرة الغلو بين المسلمين.
حدُّ الغلو
يستفاد من النصوص الدينيّة وروايات أهل البيت عليهم السلام أنّ الغلوّ يتحقّق في الحالات الآتية:
ادّعاء الخالقيّة
عن الإمام الصادق عليه السلام: "اجعلونا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم، فلن تبلغوا".[٢١]
وتقيد الخالقيّة بالمستقلّة، لأنّه لا مانع من نسبة الخلق، بمعنى تشكيل صورة مادّة سابقة بقدرة الله تعالى وإذنه، كما ورد عن النبيّ عيسى عليه السلام قوله في القرآن الكريم: "أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ".[٢٢]
ادّعاء الألوهيّة
قال تعالى: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً".[٢٣]
وعن الإمام علي الرضا عليه السلام: "إنّ من تجاوز بأمير المؤمنين العبوديّة فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين".[٢٤]
ادّعاء الربوبيّة
عن الإمام الصادق عليه السلام: "اجعل لنا ربًّا نؤوب إليه، وقولوا فينا ما شئتم".[٢٥]
ومعنى الربوبيّة: التدبير، وقُيدت بالمستقلّة لجواز نسبة الربّ غير المستقلّ إلى الإنسان، كما يقال: ربُّ العمل، ربُّ البيت، ونظيره قوله تعالى عن الملائكة: "فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا".[٢٦] فهي مدبِّرة إلاّ أنّ تدبيرها غير مستقلّ عن الله تعالى، إنّما هو بإرادته وإذنه.
ومن الروايات التي تنهى عن الاعتقاد بالربوبيّة المستقلّة، والتدبير كذلك، ما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام في دعائه: "اللهمّ إنّي أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا...اللهمّ من زعم أنّا أرباب، فنحن منه براء، ومن زعم أنّ إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن إليه منه براء كبراءة عيسى عليه السلام من النصارى، اللهم إنّا لم ندعهم إلى ما يزعمون، فلا تؤاخذنا بما يقولون".[٢٧]
القول بالنبوة بعد بعثة النبيّ (ص)
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من قال: بأنّنا أنبياء، فعليه لعنة الله، ومن شكّ في ذلك فعليه لعنة الله".[٢٨] وورد عنه عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه: "يا أبا عبد الله، أبرأ ممّن قال إنّا أنبياء".[٢٩]
وورد عن خالد بن نجيح أنّه قال: "دخلت على أبي عبد الله عليه السلام الإمام الصادق، وعنده خلق، فجلست ناحية، وقلت في نفسي: ما أغفلهم عند من يتكلّمون. فناداني: إنا والله عباد مخلوقون، لي ربّ أعبده، إن لم أعبده عذبني بالنار. قلت: لا أقول فيك إلاّ قولك في نفسك. قال: اجعلونا عبيدًا مربوبين، وقولوا فينا ما شئتم إلاّ النبوّة".[٣٠]
اعتقاد سقوط التكليف بالمعرفة
رواية عن الإمام العسكريّ عليه السلام، ذُكر فيها أنّ علي بن حسكة يزعم أنّ الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم كلّ ذلك معرفة الإمام،[٣١] وبالتالي كان هذا الاعتقاد يؤدّي إلى الاعتقاد بسقوط التكليف عن العارف بالإمام، وبالتالي تركه عمليًّا، من هنا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "الغالي اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحجّ".[٣٢]
وقد ذكر العلاّمة المجلسيّ بعض الأمور الأخرى من محقِّقات الغلوّ، فقال: "إنّ الغلوّ في النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليه السلام إنّما يكون بالقول بألوهيتهم أو بكونهم شركاء له تعالى في المعبوديّة، أو في الخلق، أو الرزق، أو أنّ الله تعالى حلّ فيهم، أو اتّحد بهم، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي، أو إلهام من الله تعالى، أو بالقول في الأئمة عليهم السلام أنّهم كانوا أنبياء، أو القول أنّ معرفتهم تغني عن جميع الطاعات، ولا تكليف معها بترك المعاصي، والقول بكلّ منها إلحاد وكفر، وخروج عن الدين كما دلّت عليه الأدلّة العقليّة، والآيات، والأخبار".[٣٣]
تنبيه الأئمّة (ع) إلى عدم التقصير
لا شك أن أئمة أهل البيت عليهم السلام يتمتعون بمراتب ومقامات عالية من العلم والإيمان لا يسع عامة الناس إدراكها، ولذلك نجد بعض كبار الصحابة في عهد الأئمة كثيراً ما يُتهمون بالغلو بسبب القول بتلك المراتب والدرجات للأئمة عليهم السلام.
يقول السيد البروجوردي رحمه الله في كتابه البدر الزاهر: "كان السبب في ذلك يعود للقصور الفكري والعقائدي لبعض الشيعة فكانوا لذلك ينسبون ذوي المعرفة الكاملة والعقائد الصحيحة من الشيعة إلى الغلو والإفراط".[٣٤]
ونلاحظ في بيانات أئمّة أهل البيت عليه السلام، الرافضة للغلوّ، الحذر من الاسترسال في نفي الكمالات بما يؤدّي إلى التقصير في معرفتهم، وبيان كمالاتهم، من هنا ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "يا أبا حمزة، لا تضعوا عليًّا دون ما وضعه الله، ولا ترفعوه فوق ما رفعه الله".[٣٥]
وفي رواية عن الإمام الرضا عليه السلام يحذّر فيها من الغلوّ والتقصير معًا، فعنه عليه السلام: "قال إبراهيم بن أبي محمود: فقلت للرضا: يا بن رسول الله إنّ عندنا أخبارًا في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وفضلكم أهل البيت، وهي من رواية مخالفيكم، ولا نعرف مثلها عندكم، أفندين بها ؟ فقال: يا ابن أبي محمود، لقد أخبرني أبي عن أبيه عن جده عليه السلام أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله عزّ وجلّ، فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس، ثمّ قال الرضا عليه السلام: يا ابن أبي محمود، إنّ مخالفينا وضعوا أخبارًا في فضائلنا، وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلوّ، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا، ونسبوهم إلى القول بربوبيّتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسماءنا، وقد قال الله عزّ وجلّ: "وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ" (الأنعام: 108). يا ابن أبي محمود إذا أخذ الناس يمينًا وشمالاً فالزم طريقتنا، فإنّه من لزمنا لزمناه، ومن فارقنا فارقناه".[٣٦]
بسبب ما مرَّ كثرت الروايات المعقِّبة بعد النهي عن الغلو بفتح المجال للحديث عن فضائلهم، وذلك بعبارات عديدة منها:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا: إنّا عبيد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم".[٣٧]
وعنه عليه السلام: "اعلم يا أبا ذر، أنّا عبيد الله عزّ وجل، وخليفته على عباده، لا تجعلونا أربابًا، وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنّكم لا تبلغون كنه ما فينا، ولا نهايته، فإنّ الله عزّ وجل قد أعطانا أكبر وأعظم ممّا يصفه واصفكم، أو يخطر على قلب أحدكم، فإذا عرفتمونا هكذا، فأنتم المؤمنون".[٣٨]
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لصاحبه: "لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا".[٣٩]
ضابطة ردّ الحديث
وضع أهل البيت عليه السلام ضابطة لردّ ما ينقل عنهم، وهي أن يستحيل كونه في المخلوق، أمّا في حال إمكان وجوده في المخلوق فقد دعا أهل البيت عليه السلام في حال استغرابه إلى عدم رفضه وجحوده، وأمروا بإرجاعه إليهم عليه السلام، فقد ورد عن الإمام الصادق عليهم السلام: "ما جاءكم منّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين، ولم تعلموه، ولم تفهموه، فلا تجحدوه وردّوه إلينا، وما جاءكم عنّا ممّا لا يجوز أن يكون في المخلوقين فاجحدوه ولا تردّوه إلينا".[٤٠]
دعوة الأئمة (ع) إلى الوسطيّة
إنّ الناتج عن النهي عن الغلوّ والتقصير هو أن يكون المؤمن وسطيًّا في نظرته إلى أهل البيت عليه السلام، وهذا ما عبَّر عنه الإمام الباقر عليه السلام بقوله: "يا معشر شيعة آل محمّد، كونوا النمرقة الوسطى يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي".[٤١]
إنَّ معنى النُمرُقة – بضم النون والراء أو كسرهما- الوسادة، ومن الواضح أنّ الوسادة المنخفضة جدًا، أو المرتفعة كذلك لا تصلح للاستقرار، إنّما يصلح لذلك الوسادة الوسطى.
أمّا معنى الحديث فقد فسَّره ابن أبي الحديث بقوله: "والمعنى أنَّ آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم هم الأمر الأوسط بين الطرفين المذمومين، فكلّ من جاوزهم فالواجب أن يرجع إليهم، وكلّ من قصَّر عنهم، فالواجب أن يلحق بهم".
وبالمعنى نفسه ورد عن الإمام عليّ عليه السلام حديث صرَّح بالتقصير بعد الغلوّ وهو: "تلك خيار أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم النُمرُقة الوسطى يرجع إليهم الغالي، وينتهي إليهم المقَصّر".[٤٢]
الهوامش
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- ابن فارس، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، بيروت، دار الكتب العلمية، د.ت.
- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1988 م.
- البروجوردي، حسين، البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر، قم، مطبعة نگین، ط 3، 1416 هـ.
- الحميري، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد، د.م، مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، 1413 هـ.
- الحيدري، كمال، الغلو حقيقته وأقسامه، قم، مؤسسة الإمام الجواد (ع) للفكر والثقافة، د.ت.
- الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد، المفردات في غريب القرآن، بيروت، دار المعرفة، د.ت.
- الزبيدي، مرتضى، تاج العروس، بيروت، دار مكتبة الحياة، ط 1، 1390 هـ.
- الشاهرودي، علي، مستدرك سفينة البحار، تحقيق: حسن بن علي النمازي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1419 هـ.
- الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد گیلاني، بيروت، دار المعرفة، 1402 هـ.
- الصدوق، محمّد بن علي، الاعتقادات في دين الإماميّة، تحقيق: عصام عبد السيد، بيروت، دار المفيد، ط 2، 1414 هـ.
- الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا (ع)، تحقيق: حسين الأعلمي، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1404 هـ.
- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، بيروت، منشورات مؤسسة الأعلمي، ط 1، 1997 م.
- الطبرسيّ، أحمد بن علي، الاحتجاج، دار النعمان، النجف الأشرف، 1386 هـ.
- الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، تحقيق: أحمد الحسيني، إيران، منشورات المكتبة المرتضوية، ط 2، 1395 هـ.
- الطوسي، محمّد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال، د.م، د.ن، د.ت.
- الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط 2، 1407 هـ.
- القرطبي، محمد بن أحمد، تفسير القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم اطفيش، القاهرة، دار الكتب المصرية، ط 2، 1964 م.
- المازندراني، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، تحقيق: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، النجف الأشرف، مطبعة الحيدرية، 1376 هـ.
- المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار، د.م، د.ن، د.ت.
- المفيد، محمد بن محمد، أوائل المقالات، إيران، د ن، 1370 هـ.
- المفيد، محمد بن محمد، تصحيح اعتقادات الإمامية، تحقيق: حسين درگاهي، بيروت، دار المفيد للطباعة والنشر، ط 2، 1414 هـ.
- بدوي، عبد الرحمن، مذاهب الإسلاميين، د.م، د.ن، د.ت.
- عبد الحميد، عرفان، دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية، بيروت، مؤسسة الرسالة، د.ت
- ↑ ابن منظور، لسان العرب، ج 10، ص 112، مادة غلا.
- ↑ الطريحي، مجمع البحرين، ج 1، ص 318، مادة غلا.
- ↑ الراغب، المفردات في غريب القرآن، ص 364، مادة غلا.
- ↑ ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة غلوي.
- ↑ الزبيدي، تاج العروس، مادة غلو؛الفيروزأبادي، القاموس المحيط، مادة غلو.
- ↑ النساء: 171.
- ↑ الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 151.
- ↑ المائدة: 77.
- ↑ الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 6، ص 76.
- ↑ القرطبي، تفسير القرطبي، ج 6، ص 21.
- ↑ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج 2، ص 217، الباب 46، ح، 1.
- ↑ الحميري، قرب الإسناد، الحديث، 452، ص 129.
- ↑ المازندراني، مناقب آل أبي طالب، ج 3، ص 347.
- ↑ المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص 109.
- ↑ المفيد، أوائل المقالات، ص 238.
- ↑ الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 173.
- ↑ الحيدري، الغلو حقيقته وأقسامه، ص 23.
- ↑ بدوي، مذاهب الإسلاميين، ص 28- 29.
- ↑ عبد الحميد، دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية، ص 139.
- ↑ الحيدري، الغلو حقيقته وأقسامه، ص 26.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص 279.
- ↑ آل عمران: 49.
- ↑ النساء: 171.
- ↑ الطبرسي، الاحتجاج، ج 2، ص 233.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص 283.
- ↑ النازعات: 5.
- ↑ الصدوق، الاعتقادات في دين الإماميّة، ص 99.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج25، ص296.
- ↑ الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ج 2، ص 515.
- ↑ الشاهرودي، مستدرك سفينة البحار، ج7، ص 52.
- ↑ الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ج2، ص804.
- ↑ بحار الأنوار، ج 25، ص 265.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص 346.
- ↑ البروجوردي، البدر الزاهر، ص 291.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص 283.
- ↑ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 272.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص 270.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج 26، ص 2.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص 279.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص 364.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج 65، ص 78.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج 66، ص 75.