السيد عباس الموسوي
السيد عباس الموسوي، (1952 ــ 1992 م) عالم دين شيعي من لبنان، هو الأمين العام الثاني لحزب الله، ويعتبر من رواد الحركة الإسلامية في لبنان خلال القرن العشرين، خصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، واتسمت الحركة التي انضوى تحتها بتبنيها لأفكار السيد الخميني، وبالعمل الجهادي والمقاوم في وجه الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان وبقاعه الغربي، و بالدعوة لأن تكون القضية الفلسطينية هي قضية الأمة الإسلامية الأولى.
مولده ونشأته
ولد السيد عباس الموسوي عام 1952 م في بلدة النبي شيت في البقاع في لبنان،[١] ودرس في مدرسة البلدة الرسمية، وتابع دراسته الابتدائية في مدرسة الساحل الواقعة في "الشيّاح" في الضاحية الجنوبية لبيروت حتى أنهى المرحلة المتوسطة.
التحاقه بالمقاومة الفلسطينية
تعرّف السيد عباس الموسوي على المقاومة الفلسطينية منذ أن كان في أوائل شبابه، وقد قرر أن يلتحق بإحدى الدورات العسكرية التي أقيمت في سوريا، ولمّا يكن قد تجاوز السادسة عشرة من عمره حينها.
تعرّفه على السيد موسى الصدر
كان من عادة السيد موسى الصدر أن يأتي إلى الشياح لزيارة أحد السادة من آل الموسوي، وهو قريب لوالد السيد عباس، فأرسل السيد عباس مع والده للسيد موسى أنه يرغب بلقائه والتعلم عنده، فأعطاه السيد موسى موعداً في صور وبعد الإجراءات المتّبعة دخل إلى عالم طلب العلوم الدينية.
وأصبح السيد عباس صاحب معرفة عميقة بالسيد موسى الصدر أدّت إلى أن يتأثر به بشكل واضح، خصوصاً من ناحية الرسالة السياسية والحركة التبليغية والنشاط الاجتماعي وفهم الناس والتعامل معهم، والانفتاح على الآخر. وقد أُعجب السيد موسى بالسيد عباس مما دفعه ليعطيه اهتماماً خاصاً؛ لأنه استطاع أن يلفت نظر السيد موسى من خلال تجاوزه لهمومه الشخصية ليحمل هموماً تخصّ الأوضاع العامة.
في النجف الأشرف
رأى السيد عباس أنه من الضروري الذهاب إلى النجف الأشرف والتعرف على كل مظاهر العلم هناك، لذا قام السيد الصدر بالكتابة إلى صهره وابن عمه السيد محمد باقر الصدر موصياً إياه بالسيد عباس، فهاجر السيد عباس إلى النجف في سنة 1969 وهو في السابعة عشرة من عمره.
دور السيد محمد باقر الصدر
اشتهرت مكانة السيد محمد باقر الصدر العلمية في الحوزة العلمية، وشكّل بالنسبة إلى السيد عباس الموسوي نموذجاً فريداً، فمن جهة الدراسة؛ كان موضوع التبليغ وضرورة المبادرة إليه من أهم المواضيع التي أوصى بها السيد محمد باقر الصدر، فقام السيد عباس مع جملة من أخوانه طلبة العلوم الدينية بعقد ندوة أسبوعية يتكلم فيها بعضهم ويقوم البعض الآخر بتوجيه الأسئلة والإشكالات ثم بعد ذلك تجري عملية تصحيح لنقاط الخلل إن كان ثمة نقاط خلل في الكلام أو في رد الإشكالات. وفي تلك المرحلة تعرّف السيد عباس إلى رفيق دربه الشيخ راغب حرب.
زواجه
عام 1973 م تزوج السيد عباس الموسوي من ابنة عمه سهام (أم ياسر)، وسافرا معاً إلى النجف الأشرف. وكانت السيدة أم ياسر إحدى تلامذة السيد عباس، كما كان لها دور أساسي في مشروعه الإستنهاضي والتوعوي.
العمل التبليغي في مرحلة السبعينيات
في أول زيارة للسيد الموسوي إلى لبنان سنة 1973 م، بدأ فعلاً بالعمل التبليغي منطلقاً من بلدته النبي شيت حيث كان يجتمع الشباب في البلدة يستمعون إلى محاضرات للسيد الذي لم يتجاوز آنذاك الحادية والعشرين من عمره. وساعده امتلاكه قدرة خطابية مميزة، زاد في ميزتها الأفكار المتماسكة التي تمكّن السيد من تحصيلها خلال سنوات قليلة.
وبسرعة تمكن من أن يجعل من النبي شيت منطلقاً لعمله الذي شمل القرى والبلدات المحيطة بها، وكان يذهب بصحبة عقيلته التي كان لها دورها في تبليغ النساء في تلك النواحي.
العودة إلى لبنان بشكل نهائي
لازم السيد عباس طلب العلم في النجف إلى سنة 1977 م، وهي السنة التي أخذت السلطة البعثية قراراً فيها ببدأ حملة ضد الحوزة العلمية. كان السيد عباس حين أخذ القرار قد أتى إلى لبنان للتبليغ كعادته في شهر محرم الحرام، وعلم بالاعتقالات وأدرك أن اسمه يأتي في رأس قائمة المطلوبين للسلطة، وبالرغم من ذلك أراد العودة إلى النجف لولا أن أستاذه السيد محمد باقر الصدر أمره بالبقاء في لبنان ريثما تنجلي الأمور، لا سيما أن السيد محمد باقر الصدر كان يعلم أن السلطة إذا ألقت القبض على السيد عباس، فلن يكون هناك مجال لإنقاذه. ولما إتجهت الأمور إلى التصعيد من جانب السلطة العراقية قرر السيد الاستقرار في لبنان ليبدأ بالإعداد لمشروع آخر.
في بعلبك
والتقى السيد عباس بطلابه المرحّلين من العراق في لبنان، ونجح في جمع شملهم من جديد. ورأى السيد وطلابه أن الخيار الوحيد الباقي هو المكث والإقامة في لبنان، ووقع الخيار على أن يسكنوا في بعلبك وأن يتم تأسيس حوزة علمية فيها؛ بفضل الوضع الأمني الجيد نسبياً مقارنةً مع المناطق الأخرى، ونتيجةً للاحتضان الشعبي، ولحاجة المدينة الفعلية لمثل هذه المؤسسة.
ورغم أن الأمور المادية لم تكن متاحة للقيام بأي حركة في مجال بناء حوزة علمية، إلا أن السيد الشهيد سعى لتأمين مركز مؤقت. فتم استئجار شقة من غرفتين في بادىء الأمر لمدة شهرين، ثم بدأت الحوزة بالتنقل من مكان إلى مكان آخر في مدينة بعلبك، إلى أن استقرت ولمدة طويلة في المبنى المجاور لمسجد الإمام علي (ع) في المدينة وسميت بحوزة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه).
وقد تميّزت إدارة السيد عباس لهذه الحوزة بالاهتمام بالأجواء الروحية والأبعاد الأخلاقية، وبمتابعة أوضاع الطلاب العلمية والوقوف بجانبهم عند الحاجة. كما ونجح السيد الموسوي في بناء علاقات متينة للحوزة العلمية مع الناس في محيطها.
وكانت دروس الأخلاق والتفسير والسيرة تأخذ دورها في الوسط العلمي لطلاب حوزة بعلبك، ليتمكّن المبلغ من أداء دوره المطلوب بشكل أكمل. كذلك كانت تتم تهيئة الطلاب عبر الندوة الأسبوعية التي بدأت مع بداية الحوزة والتي تضم كل الطلاب، وكانت تهدف إلى تمرين الطالب على الخطابة والموعظة.
كما إنصب الإهتمام على تدريب الطالب على إجراءات وضوابط النشاطات الدينية الإجتماعية، كإجراء عقد الزواج أو الصلاة على الجنازة، أو الاستخارة أو فض نزاع جرى بين شخصين، أو غير ذلك مما يتعرض له طالب العلم. وكان ذلك جزءاً من التأهيل الذي سعى السيد ليوصل إليه الطلاب.
الحوزة والثورة الاسلامية الإيرانية
كانت الثورة الإسلامية التي قادها السيد الخميني قد أحدثت تياراً كبيراً في وسط الأمة الإسلامية، وتمكنت من إعادة كثير من أبناء الأمة إلى مبادئ الإسلام بعد أن مالوا إلى بعض التيارات العلمانية أو الملحدة. وقد رأي السيد عباس -باكراً- في الثورة المبدأ الصحيح، والقاعدة الصلبة، والقائد الحكيم.
ولمّا انتصرت الثورة ووصل خبرها إلى كل العالم، كان من الطبيعي أن يتأثر بها لبنان بكل مناطقه، ومنها بعلبك التي غدت حوزتها منبراً لإيصال نداء الثورة الإسلامية الإيرانية، خصوصاً ثم فيما بعد عندما بدأت الحرب المفروضة. وكان التفاعل الجماهيري مع الثورة واضحاً، وصارت حوزة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) هي الملتقى لأولئك الذين أحبوا الإمام وثورته[٢]
مرحلة الإجتياح وما تلاه
في أوائل شهر حزيران من عام 1982م بدأت القوات الإسرائيلية باجتياح لبنان، وانهار أمامه كل شيء، فلم يعد للمنظمات الفلسطينية المقاتلة وجود في السَّاحة.
في تلك الحال قرر السيد الخميني مساعدة لبنان، وأرسل مجموعات من حرس الثورة الإسلامية إلى منطقة البقاع في شرق لبنان لرد العدوان. وكان الجو في البقاع عموماً وفي بعلبك على وجه الخصوص، مؤاتياً لاستقبال هذه المجموعات، لعدة عوامل منها استعداد المجتمع نفسه لتوفير بيئة مناسبة وحاضنة لنشاط وعمل هذه المجموعات.
الإستعداد العسكري
وقد تم الاتفاق بين السيد عباس وبين مجموعة من العلماء وقيادة الحرس، على تهيئة الجو على مستوى الإعداد العسكري ليتحول المجتمع إلى مجتمع مقاومة. وهذا ما حصل، وبدأت الدورة الأولى، وكان السيد عباس وجزء من طلاب الحوزة وأساتذتها من بين الذين خضعوا للدورة.
استمرت الدورة تلك لمدة أكثر من شهر واستطاع السيد عباس من خلالها أن يحقق نتيجتين طيبيتين، فهو ركز طلابه من خلال إخضاعهم بما خضع له ليكونوا بالمستوى المطلوب في هذه المرحلة الصعبة وهو - ثانياً- فتح باب الجهاد على مصراعيه أمام أبناء الأمة الذين رأوا علماء الإسلام في مقدمة المسيرة.
وتبعت هذه الدورة دورات أخرى خرّجت مئات المقاتلين في الأشهر الأول التي أعقبت الاجتياح الاسرائيلي. وأخذت أعداد كبيرة من خارج منطقة البقاع، وبالتحديد من الجنوب والضاحية وبيروت - حيث كان الاحتلال - تتقاطر إلى معسكرات التدريب.
وقد لازم السيد عباس دروسه ومحاضراته في المعسكرات التدريبة الداعية إلى تغيير ردّة الفعل السائدة في التعاطي مع مشكلة الاحتلال.
أنشطة السيد عباس التوعوية عُقَيْب الاجتياح
في المرحلة التي أعقبت الاجتياح الاسرائيلي تركّزت أنشطة سيد عباس الموسوي في عدة محاور.
- تثبيت صلاة الجمعة في بعلبك حيث كان يؤم المصلين في هذا اليوم المبارك. وكانت صلاة يحضرها المؤمنون من أنحاء البقاع فضلاً عن مدينة بعلبك. وتحولت الصلاة العبادية السياسية إلى موقع قوي من مواقع التعبئة الروحية والجهادية.
- مضاعفة الجهد في مجال الاستنهاض والتوعية والتبليغ، فإن المنطقة بأسرها تعيش وضعاً صعباً؛ كان من جملة أسبابه عدم معرفة الناس عموماً بما كان يجري من أحداث ووقائع.
- السعي الحثيث من أجل تحقيق الوحدة الإسلامية، وقد رفعت الثورة الإسلامية هذا الشعار وطلبت من المسلمين أن يحققوه في أوساطهم ليوجهوا من خلال ذلك ضربة كبيرة إلى الاستكبار العالمي. وكان المسلمون يعيشون الخلافات المتنوعة ومن خلال هذه الخلافات عاشوا التشرذم طويلاً.
في البداية كانت هذه المناسبة لا تحمل أكثر من مجرد اللقاء بين علماء المسلمين، ثم بعد ذلك أخذت تتضمن الطروحات الإسلامية لمعالجة مختلف القضايا. وفي أول الأمر كانت هذه المسألة تحتاج إلى من يلاحقها ويتابعهاولاحقاً صارت جزءاً من حياة المسلمين. كما أن بعلبك كانت أولاً المكان الوحيد الذي يتواجد المسلمون فيه بأطرافهم، ثم بعد ذلك أضحت كل المناطق معنية بهذا الجانب.
تأسيس حزب الله
وهو أمر جوهري، ومن خلاله يحفظ ما تقدم من مساعي السيد عباس الموسوي. والمرجو من هذا الإطار عدّة أمور:
- يجب في هذا الإطار أن يؤدي الدور الذي يقوم به المجاهدون من خلال الأعداد والتهيئة من جهة، والتنسيق بين وحدات العمل من جهة ثانية، وتأمين السبل لدعم هذا الدور الجهادي بما يلزمه من سلاح وعتاد من جهة ثالثة.
- يجب أن يلتزم فيه بالحد الأدنى من العقيدة التنظيمية ليكون قادراً على استيعاب الأمة بأسرها، فلا يكون الوضع التنظيمي حائلاً بين هذه الأطار بكل أفراده وأجزائه وبين الشرائح الاجتماعية المختلفة.
- يجب أن يحقق في ذاته الالتزام الكامل بأحكام الإسلام ليصبح وسيلة من رسائل الدعوة إلى الله تعالى.
ولم يكن بالإمكان الاعتماد على تنظيم قائم، لأن كل التنظيمات القائمة - بنظر السيد والمؤسسين الآخرين - كانت قد تعرضت لامتحانات لم تستطع أن تتجاوزها بنجاح، بالإضافة إلى أن الطروحات التي ينبغي أن يحملها "حزب الله"، لا تستطيع القيادات الأخرى أن تحملها، وقد عانى هؤلاء المؤسسون في البداية معاناة شديدة وعملوا في ظروف قاسية حيث لم يكن الجو ممهداً لقيام تنظيم جديد، خصوصاًَ أنَّ الفكرة عن الأحزاب في المجتمع اللبناني لم تكن تشجع على القيام بعمل كهذا.
ولقد تمكن هذا الجمع من الأخوة مع السيد الشهيد أن يحددوا الهوية لهذا التنظيم الجديد فهو تنظيم مقاتل للعدو الإسرائيلي، وليس حزباً سياسياً بالمعنى المتعارف، والذي يجعل العمل العسكري والقتالي في مصلحة العمل السياسي، بل أن الهدف المرحلي هو إخراج هذا العدو من المناطق التي أخذها بالعدوان والاحتلال والغصب، بغض النظر عن المكتسبات السياسية.
شهادة الشيخ راغب حرب
كان الشيخ راغب حرب رفيق درب السيد عباس الموسوي في النجف الأشرف وكانت تجمعه به مجموعة كبيرة من المواصفات المشتركة، وقد كان التواصل قائماً بينهما قبل الاجتياح الإسرائيلي، وآخر اللقاءات كان قبيل الاجتياح وبالتحديد في شهر نيسان عام 1982م، ثم حال الاجتياح بينهما، ولكن ليعمل كل منهما في حقله لمواجهة العدو ، فكل منهما كان يعيش في محيط لا يشابه الآخر أمنياً وسياسياً.
وفي السادس عشر من شهر شباط عام 1984م تم اغتيال الشيخ راغب حرب من قبل عملاء الموساد الإسرائيلي، ووجّهت إسرائيل بذلك ضربة كبيرة إلى الحالة الإسلامية التي كان الشيخ الشهيد أحد أبرز رموزها.
وفي ذكرى أسبوع الشيخ راغب حرب، قرر السيد عباس الموسوي أن يذهب إلى هناك للمشاركة في الذكرى.
وقد نصحه من حوله وحذره من خوض هذه "المغامرة" الخطيرة، إلا أنه كان قد عقد العزم واتخذ القرار، وطلب ممن يرغب من الأخوة الالتحاق به.
وفي اليوم الموعود اجتمع هؤلاء في الطريق إلى جبشيت، وعندما وصلوا إلى حاجز باتر حال بينهم وبين الوصول إلى المقصد، ولكن بعد أن واجه السيد المجاهد جلاوزة العدو مسجلاً نقطة قوة في حياته وحياة الأمة الإسلامية.
فقد قرر عناصر الحاجز مضايقة هؤلاء الوافدين ليجبروهم على الرجوع، وعندما بدأوا بالمضايقة تصدي لهم السيد بشجاعة فكانت النتيجة أن انهمر الرصاص على مقربة منه، وأصيبت بعض السيارات بهذا الرصاص، وحينها تقدم السيد عباس باتجاه الجندي الصهيوني الذي كان يطلق النار والذي أصيب بالذهول عندما رأى السيد يتقدم باتجاهه، فكان يتراجع إلى الوراء وهو يرمي برصاصه إلى الأمام حيث يقف السيد الشهيد الذي قال له بكل صلابة: أطلق النار على صدري وليس على الأرض إن كنت رجلاً.
ولكي يخرج الجنود من هذا المأزق الذي أوقعوا فيه أنفسهم؛ تظاهروا بأنهم يقبلون بعبور أعضاء الوفد إلى مقصدهم ولكن بشرط أن لا يكون "هذا الرجل" بينهم؛ مشيرين إلى السيد عباس. وطبعاً لم يوافق أعضاء الوفد "المسموح لهم" على هذا العرض بل آثروا الرجوع بأكملهم ولكن بعد أن سجلوا نقطة انتصار على ذلك العدو الجبان.
مشاركته في الهيئة القيادية لحزب الله
لم يغب السيد عباس الموسوي عن أي هيئة قيادية لحزب الله منذ تأسيسه، بل كان على الدوام أحد أعضاء الشورى الأساسيين؛ يشارك في صنع القرارات وفي تنفيذها. وبالإضافة إلى ذلك عهد إليه بملف الثقافة والإعلام، وبقي فترة طويلة أيضاً معنياً بملف العلماء، ولا سيما في المرحلة التي نتحدث عنها، وقد أثمرت جهوده التي بذلها في مختلف الميادين مجموعة من الأنشطة بعضها يمكن تدوينه وتأريخه، كما هو الحال في إصداره لــجريدة العهد حيث كان هو المنفذ لتهيئة وإعداد انطلاقتها الأولى، إلى مطبوعات أخرى يحتاجها أعداد الفرد المجاهد.
مرحلة الإندحار الإسرائيلي الأول عام 1985
كان حديث السيد عباس عن انسحاب إسرائيلي مثار تعجب عند البعض، ولكنها الحقيقة التي أدركوها عياناً فيما بعد، وهو إنما كان يتكلم انطلاقاً من واقع لامسه. ولطالما تحدث ليس عن انسحاب إسرائيلي من جنوب لبنان فحسب، وإنما تحدث عن الإزالة الكاملة لهذا الجسم الخبيث من جسد الأمة الإسلامية.
ومن هذا المنطلق لم يكن الانسحاب الإسرائيلي الأول نهاية المطاف عند السيد، وما كان مكتفياً بالاحتفال بنشوة الانتصار.وهو أعطى للمقاومة ما تستحقه من الثناء، ولكنه لم يغفل عن قدرة ذلك العدو في إرباك الساحة الداخلية عند غفلة أبنائها. ولقد كان يكرر هذه المسألة إلى نهاية حياته حين خطب في جبشيت آخر خطبة له، وهو في ذلك يريد من الجميع أن يكونوا على حذر.
ترك الحوزة العلمية
في خضم هذه الأحداث المتسارعة التي حصلت سنة 1985م كان السيد لا يزال مع كل انشغالاته يحمل هم الحوزة العلمية في بعلبك والتي رعاها حق الرعاية يوماً فيوماً. ولم يكن أحد يتصور أنه سوف يأتي اليوم الذي يمكن له أن يتخلَّى فيه عن هذا الصرح العلمي بشكل نهائي، ولكن ما جرى لم يترك له المجال للتفكير، إذ أصبح السيد على تواصل مع كل خصوصيات المجاهدين، ولم يكن بالإمكان بعد أن يجمع بين هذا وذاك. فكان لا بد من اتخاذ القرار الصعب. وقد أخبر السيدُ الخاصةَ من أخوانه بهذا الأمر، ومن ثم أُبلغ طلاب الحوزة الذين تلقوا هذا الخبر بصدمة. صحيح أن السيد في الفترة الأخيرة كان كثير التغيب عن الحوزة، ولكن بنظرهم كانت بركته حاضرة على أي حال.
وبقي السيد على تواصل مع الأساتذة ، وظل في موقع المشرف على شؤونها، وإن لم يتسن له في الفترات الأخيرة أن يتواصل معها كما كان يفعل من قبل.
في جبل عامل
خرجت إلى العلن أول تشكيلة لحزب الله بعد التحرير الأول في أواخر سنة 1985 م وبدأت مهمتها الصعبة في ذلك الوقت.
وفي تركة الآونة استقر السيد الشهيد وزوجته في قرية "طير دبّا" في منزل أحد الأخوة العاملين لعدة أشهر، تمكن من خلالها من وضع المرتكزات الأساسية للعمل المقاوم رغم وجود عقبات من أهمها الحرب التي سميت آنذاك "حرب المخيمات"، والتي كادت تأخذ في طريقها كل الانجازات التي تحققت لولا العناية الإلهية، ولقد بذل السيد الشهيد جهوداً مضنية في سبيل إنهاء هذه الحرب. يقول السيد الشهيد: "لقد دافعت عن الشعب الفلسطيني، وبصدري احتضنت أطفالهم في الرشيدية، ومنعنا عنهم المؤامرة، وطالبنا في تلك المرحلة بإبعاد العدوان عنهم".
مرت عدة أشهر على السيد الشهيد وهو في "طير دبّا" ثمّ انتقل إلى صور، وجعل منها مقراً ومنطلقاً لعمله المتواصل.
هناك أصبح السيد الشهيد على علاقة مباشرة بأدق تفاصيل العمل الجهادي المقاوم؛ كان موضوع المقاومة يحتاج إلى مجموعة من الأعمال الشاقة. وكان هذا الهم الذي حمله السيد الشهيد يحتم عليه القيام بمجموعة من التحركات اليومية لمتابعة الأوضاع العادية والطارئة للمقاومة.
يسجل مرافقوه ومن عاشوا معه تلك الفترة الجهادية الدقيقة، أن ساعات نومه لم تكن تتعدى أربع ساعات في اليوم ليس أكثر. لقد كان هذا الوضع يرهق المرافقين له، على الرغم من أنهم قد ينامون في الوقت الذي يكون هو مستغرقاً فيه في عمله المتواصل، مع أن وضعه الصحي لم يكن على ما يرام، فقد كان دائماً يشكو من آلام في معدته، بالإضافة إلى حالة تعب وإرهاق يحاول أن يخفيها ولكن الذين هم من خاصته لا تخفى عليهم، ولقد نصح كثيراً بضرورة أن يخلد للراحة، فكان يبتسم ويقول إن شاء الله إذا سنحت الفرصة لذلك.
وقد استطاع إخوة الشهيد أن يستفيدوا من أفكاره التي كانت ترتكز على مواجهة العدو الإسرائيلي بشتى السبل وبشكل مباشر، من دون نسيان توجيه ضربات خاطفة وسريعة لجماعة لحد من شأنها أن تحطّ معنوياتهم وتحد من شأنهم.
وكما أن الواقع العسكري يحتاج إلى هذه العناية فإن الوضع السياسي يومها لم يكن ملائماً بشكل تام للعمل المقاوم، حيث أن إلهاء المقاومة والمقاومين عن توجههم الأول والأساس ضد العدو، كان هو الفعل الذي تريده "إسرائيل" لأنه يحفظها ويحميها من المقاومين.
عملية الأسيرين
لقد كانت باكورة العمل النوعي للمقاومة بعد تولي السيد عباس مهمته الجديدة هي التخطيط لعملية الأسيرين، والتي حصلت في منتصف شهر شباط سنة 1986، وأعقبها اجتياح إسرائيلي لجزء من الأرض التي كانت قد تحررت قبل سنة، وقد استمر هذا الاجتياح لمدة ستة أيام، إلا أن المجاهدين الذين كانوا للعدو بالمرصاد صدّوا الاجتياح وأرغموا العدو على التراجع، وأحبطوا ما كان يرمي له فلم يستطيع أن يفعل شيئاً بعد هذه العملية. ولقد بقي السيد مع المجاهدين في بلدة صريفا عندما وصلت قوات الاحتلال إلى مشارفها، من أجل الإشراف على تصدي المجاهدين لتوغّل العدو. ونتج عن العملية إحدى أكبر عمليات التبادل التي حصلت مع العدو. والتي حررت عدداً كبيراً من المجاهدين، كماوتمكنت من تحرير عدد كبير من أجساد الشهداء، ومن بينهم قائد عملية الأسيرين الشهيد الحاج سمير مطوط (جواد).
انتخابه كأمين عام لحزب الله
انتُخب السيد الشهيد في أيار مايو 1991م أميناً عاماً لحزب الله، مفتتحاً مرحلة جديدة من مسيرة الحزب هي خدمة الناس الى جانب إستمرار عمل المقاومة، وعبارته الشهيرة "سنخدمكم بأشفار العيون" كانت محفزاً لسعي كل المؤسسات العاملة إلى أن تكون على تماس مع قضايا الناس، وكان هذا يمشي جنباً إلى جنب مع عمل المقاومة تنفيذاً قوله أيضاً "سنقاوم الجوع والحرمان كما نقاوم الاحتلال".
وكان مكن أهم إنجازات السيد عباس الموسوي في مرحلة تولّيه للأمانة العامة هي المصالحة بين حزب الله وحركة أمل.
لقد كان هناك أولوية عند السيد عباس؛ وهو عمل المقاومة، ولكن الوضع الداخلي كان يحتاج إلى تضميد الجراح. خصوصاً أن الحرب الأهلية كانت قد انتهت ولم تكن نتائجها وآثارها قد زالت، لذا كان لا بد من لملمة ذلك الوضع الجديد، ومن جهة أخرى كان السيد عباس يحاول أن تنفتح هذه المقاومة بجمهورها العريض على كل القوى الأخرى (باستثناء القوى التي لها علاقة مع الكيان الصهيوني).
وبدأ حزب الله أيضاً بالعمل وفق منهجية جديدة موسومة بشخصية السيد عباس وبفهمه لطريقة العمل الإسلامي المنفتح، لذا ترى أن الحزب الذي كان مجهولاً من قبل أكثرية القوى الأخرى، تعرّف عليه هؤلاء عن قرب من خلال بداية هذه المرحلة الجديدة، واستطاعوا أن يدركوا بأن هناك فئة من الناس لا تقاتل إسرائيل وحسب، وإنما تملك وعياً سياسياً وتملك مفهوماً إنسانياً لا يوجد عند الآخرين. كما أن الكلمات التي عبر من خلالها السيد الشهيد عن الناس، وعن شرائح المجتمع، وعن ضرورة حمل لواءالمحرومين، دفع به إلى التجوال في أكثر من مكان، وفي مرات متعددة، ليكون بين الناس فيطلع على مطالبهم عن كثب، وهو الأمر الذي لفت كثيراً من الأوساط الشعبية إلى نموذج متميز عن غيره.
وقد كان الغطاء الشرعي المتمثّل بولاية السيد علي الخامنئي مصدر قوة بنظر السيد عباس، سواء في عمل المقاومة، أو في العمل السياسي والتنموي والإصلاحي؛ فهي الوسيلة الأساسية التي من خلالها استطاع أن يوصل الأمة إلى أهدافها.
الاستشهاد والتشييع
في السادس عشر من شهر شباط كمنت للسيد مروحيات صهيونية واستهدفت موكبه، بصواريخ موجهة الكترونياً عن بُعد، فاستشهد السيد وزوجته وابنه البالغ من العمر الست سنوات وصحبه شهداء. وكان قصف المروحيات من الهمجية بحيث أن جسده احترق بالكامل بحيث أن لم بيق من الجثمان إلا بعض الأجزاء المتفحمة.
انطلقت مسيرات التشييع من الضاحية الجنوبية الى البقاع ،وفي موكب مهيب قدّرته وكالة رويترز بطول عشرين كلم. ومثلما كانت الضاحية تضيق بالمشيّعين ،كذلك كان البقاع حيث أكثر من ٧٥٠ ألف تدفّقوا الى مدينة بعلبك ومن كل المناطق،
واحتشدت الناس على جوانب الطرقات لاستقبال الشهداء عند وصولهم . حتى وصل الموكب الى مسجد الامام علي (ع) في بعلبك ومنها الى النبي شيت مسقط رأسه.
استشهاد السيد عباس الموسوي بهذه الطريقة زاد من منزلته في قلوب أتباعه، حيث تم بعد شهادته نشر فيديو يُرى فيه السيد عباس الموسوي قبيل شهادته في صلاته، وهو يدعو بقنوت خاص لم يكن يعرف قبل شهادته، كان يتمنى فيه الشهادة بطريقة تنال كل جسده وجوارحه، فكانت طريقة استشهاده تلبية لما دعا به الله عز وجل.
أما ضريح السيد عباس الموسوي فهو حيث ولد في قرية النبي شيت في لبنان ويعد مزاراً يقبل الناس إليه لزيارة السيد الشهيد.
شخصية السيد عباس الموسوي
من ميزات شخصية السيد عباس الموسوي:
- الخلق الكريم: من كان يعرف السيد الشهيد يرى نفسه أمام رجل هو مصداق كبير لللأخلاق العالية. فهو لا يخرج عن طوره لا من خلال محاورة مع شخص ولا بسبب إساءة قام بها شخص بحقه مهما كانت هذه الإساءة كبيرة. وكان السيد سبباً في إحداث تحويل في حياة الآخرين. لقد حدث مرة أن السيد كان يهم بالدخول إلى باحة منزله في بيروت عندما سمع صراخاً ناجمٌ عن نزاعٍ حصل بين شخصين، وكان أحدهما يهِمُّ بالهجوم على الآخر وهو يستشيط غضباً منه؛ تقدم السيد الذي لم يكن أصلاً على معرفةٍ بذلك الشخص، واحتضنه بعطفٍ بالغٍ، ثم أمسك بيده وأصعده معه إلى منزله! وهناك تناول معه طعام العشاء، وسهر معه بعد العشاء سهرة كانت كافية ليصبح ذلك الشاب من خيار الملتزمين والمؤمنين فيما بعد. وكان السيد أستاذاً للأخلاق بكل ما للكلمة من معنى: بسلوكه وتعاطيه وتفانيه وعطفه وحنانه.
- السيد وفلسطين: إختزن قلب السيد هموم الأمة، وكان أكثرها ثقلاً همّ فلسطين، فعاش السيد جراحات شعبها ومعاناة أهلها، وعذابات القدس والمسجد الأقصى ، ولطالما أكّد (رضوان الله عليه) في مجالسه على وجوب تنفيذ فتوى الإمام الخميني بإزالة إسرائيل من الوجود. ويوم دعا الإمام الخميني (قده) الى إحياء يوم القدس العالمي، كان السيد عباس في طليعة المسيرة بلباسه العسكري، وقد شدّ جبينه بعصبة الجهاد، وكُتب عليها: أدركنا يا مهدي. وعندما سعى الأعداء لتفريق الشمل بين أبناء الجنوب والشعب الفلسطيني، حاول السيد بكل عزمه وإخلاصه للملمة الوضع المتأزم، وردّ سماحته سبب الفتنة الى إسرائيل وعملائها، وظلّ يعمل دون كلل لوأد الفتنة وإعادة اللحمة بين أبناء الصف الواحد.
- السيد وهموم المسلمين: لم تقتصر اهتمامات السيد على شؤون المستضعفين في لبنان والمقاومة ضد العدو في الجنوب، ولم تتوقف عند حدود انتفاضة الشعب الفلسطيني في الداخل، بل تجاوز ذلك ساعياً الى إيجاد وحدة بقيادة العلماء المسلمين في العالم، وتشمل القوى التي تؤمن بقتال الاستكبار. وهكذا، فإنه (قده) لم يتأخر أبداً عن تحمّل هموم شعوب وبلاد أخرى كالجزائر وباكستان وأفغانستان وكشمير، وأيضاً الجمهوريات المسلمة التي رزحت تحت حكم شيوعي لم يجلب اليها سوى الفقر والذل. ولقد لبّى السيد الشهيد دعوة وجهتها اليه "حركة تنفيذ الفقه الجعفري" في باكستان ليمثّل حزب الله في مؤتمر كشمير الدولي في "إسلام أباد")، وكان سماحته على رأس الوفد وكله إصرار على الذهاب، رغم أن بعض الجهات الأمنية نصحته بعدم التوجه الى باكستان، لكنه توجّه واعتبر ذلك تكليفاً شرعياً له.
- الرجل العابد:كان السيد الشهيد حريصاً جداً على التزام الواجب وتجنب المعصية، وكان من أهل العبادة والنافلة وقيام الليل والمداومة على زيارة المشهد المقدس لأمير المؤمنين (ع) وبقية المشاهد المشرفة في العراق، وقد كان يشجّع طلابه على هذا السلوك، حتى أنه في العام 1977 م أخذهم معه في زيارة أربعين الإمام الحسين (ع) مشياً على الأقدام من النجف الأشرف الى كربلاء المقدّسة مع حراجة الظروف القائمة في ذلك الحين، والى حين استشهاده كان السيد رجل الدعاء والبكاء والصلاة وقيام الليل وصاحب القلب العاشق لرسول الله وآله الأطهار (ص).
مقتطفات من كلام وخطبه
- أنا أحرم على نفسي أن أبقى في إطار الكلام من وراء المنابر أقول يجب أن تحفظ المقاومة؛ لأن المقاومة لا تحفظ بالكلام والمنابر؛ المقاومة تحفظ عندما يتقدم إنساننا بدمه في سبيل الله؛ عندما نقدم أرواحنا وجماجمنا في سبيل الله آنذاك تحفظ الحالة الجهادية؛ وتحفظ قيم المقاومة الإسلامية.
- المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان أطلقنا عليها اسم الإسلامية، لأن فكرها وروحها هو الإسلام، لكن هي ملك لكل المستضعفين في كل أنحاء العالم؛ ولذلك عندما تستطيع المقاومة الإسلامية أن تصبح بهذة السعة، يصبح واجب كل المستضعفين في العالم أن يتحملوا مسؤولياتهم في المحافظة عليها.
- الاستكبار العالمي مهما تعالى، يمكن توجيه ضربات قاسية إليه من خلال إمكانات بدائية وعادية.
- أبناء المقاومة الإسلامية في هذه اللحظات يشفون قلبك أيها الإمام، يشفون قلوب المؤمنين في كل أنحاء العالم، يعّبرون بقوة عن إرادتك الصلبة عن قوتك التي كان يخافها ويهابها الجميع.
- حزب الله هم هؤلاء الشهداء ، هؤلاء الشهداء الأبرار الذين دخلوا المعركة حقيقة في سبيل الله ولم يهدأوا حتى قدموا كل قطرات دمائهم ضد أعداء الله هذا هو حزب الله الحقيقي ومن يدعي الالتزام بحزب الله وهو خارج هذا الإطار "فهو ليس" من حزب الله "في" شيء[٣].