مختار كونتا
مختار كونتا
ولد عام 1968م بمدينة " انجاصان " في السنغال(1)، من أسرة تنتمي إلى المذهب المالكي، درس الدراسة الدينية على ضوء ذلك المذهب لمدّة سبع سنين، وحصل على شهادة الثانوية في اللغة العربية من معهد جامعة الملك سعود في الرياض.
تشرّف باعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) عام 1999م، ثم إلتحق بجمعية النضال الإسلامى في كامبيا، وارتقى بصورة تدريجية في تلك الجمعية حتى نال منصب النائب الأوّل لرئيس الجمعية.
في رحاب كتاب نهج البلاغة:
تعود بوادر استبصاره إلى أيّام دراسته بقسم اللغة العربية في معهد جامعة الملك سعود في الرياض، حيث إطلع هناك على مجموعة من الكتب فغاص في عالمها حتى تفتّح ذوقه وشعوره.
فيقول الأخ مختار: " كان من جملة الكتب التي وقعت بيدي كتاب (نهج البلاغة) لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، فوجدته كنزاً نفيساً من كنوز التراث العربي، حيث اجتمع بين دفتيه البيان الإسلامي الرائع ببلاغة بديعة وبيان رفيع، مما جعلني أصدّق هذه المقولة بأنّه: دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق ".
المتتبع لبيان الإمام عليّ بن أبى طالب (عليه السلام) يجد أنّ أُسلوبه يدعو القارئ ليتأمّل ويمعن النظر فيه، إذ لا توجد فيه عبارة إلاّ وتفتح بصيرته على آفاق رحبة من العلوم والمعارف.
كما أنّ بيانه (عليه السلام) لم يقتصر على واحد من الموضوعات، فحديثه حديث حكيم خبير يستلهم الحقائق الكونية بعقله وشعوره وذوقه، ثم يبدع في حديثه عن خلقة الكون وروائع الوجود.
كما أنّ كلامه (عليه السلام) كان كلام متفاعل مع الكون والحياة تفاعلاً مباشراً، بحيث يرتبط بقلبه بالكائنات في وحدة وجودية مطلقة، ثم ينطلق لسانه بما يجيش به قلبه، فيبّين الحقائق والقوانين بإنشاء تام الإنسجام بين ألفاظ والمعاني، ويعبّر عن ذلك بعبارات ملؤها الصفاء والبهاء والنزاهة والجودة، ثم يكسو المعانى التي يقصدها بحلّة فنية رائعة الجمال.
ولا عجب في ذلك لأنّ الباري سبحانه وتعالى قد اعتنى به (عليه السلام) وأفاض عليه من لطفه منذ صغره، فجمعه مع رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ليستوعب منه الرسالة بكل ما فيها من حرارة وقوّة.
تسديد الباري للإمام عليّ (عليه السلام) :
قال الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) : " ولقد قرن الله تعالى به ـ أي برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طرق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم علماً من أخلاقه ويأمرني بالإقتداء به "(2).
وقال (عليه السلام) : " والله ما أنزلت آية إلاّ وقد علمت فيما نزلت وأين أنزلت وعلى من نزلت، وإنّ ربّي وهب لي لساناً طلقاً وقلباً عقولاً "(3).
وقال (عليه السلام) : " إنّ رسول الله علمني ألف باب وكل باب يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب حتى علمت ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعلمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب "(4).
وقال (عليه السلام) : " بل اندمجت على مكنون علم، لو بُحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة "(5)، أي لاضطربتم اضطراب الحبل في البئر العميق.
علم الإمام عليّ (عليه السلام) :
قد بلغ الأمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) درجة رفيعة من العلم حتى شهد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بعلو شأنها في أحاديث متعددة، منها:
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب "(6).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) لإبنته فاطمة(عليها السلام): " أما ترضين أني زوجتك أوّل المسلمين إسلاماً وأعلمهم علماً "(7).
وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) لها: " زوجتك خير أهلي، أعلمهم علماً وأفضلهم حلماً وأوّلهم سلماً "(8).
وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) لها: " أقدم أمّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً "(9).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " أعلم أمّتي من بعدي عليّ بن أبي طالب "(10).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " عليّ باب علمي، ومبيّن لأمّتي ما أرسلت به من بعدي "(11).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " عليّ خازن علمي "(12).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " عليّ عيبه علمي "(13).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " أقضى أُمّتي عليّ "(14).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " أقضاكم عليّ "(15).
قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): " قسمت الحكمة عشرة أجزاء، فأعطي عليّ تسعة أجزاء والناس جزءاً واحداً "(16).
علّة اهتمام الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بعليّ (عليه السلام) :
لم تكن تلك العناية من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إلاّ لأنّه كان يفّكر بمستقبل الدعوة، فكان يعدّ عليّاً (عليه السلام) خليفة له، ولذلك كان يودع عنده علوم الرسالة ويهيئه لتحمل المسؤولية الخطيرة من بعده، فإنّه بعلمه الوافر هذا كان أحقّ أن يُتّبع بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال تعالى: ( أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى ) (يونس: 35).
شهادة عمر وغيره بأعلمية الإمام عليّ (عليه السلام) :
لقد شهد ببلوغه (عليه السلام) لهذا المقام السامي المخالف والمؤالف، وقد كان منهم عمر بن الخطاب! إذ ورد عنه بخصوص ذلك قوله في أكثر من مناسبة:
" لولا عليّ لهلك عمر "(17)، و " اللّهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب "(18)، و " لا أبقاني الله بأرض لست فيها أبا الحسن "(19)، و " لا أبقاني الله بعدك يا عليّ "(20)، و " اللّهم لا تنزل بي شديدة إلاّ أبو الحسن إلى جنبي "(21).
كما ورد عن عائشة أنّها قالت: " عليّ أعلم الناس بالسنة "(22).
وورد عن إبن عباس ـ حبر الإمة ـ أنّه قال: " والله لقد أعطي عليّ بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر "(23).
فمن هنا يعلم أنّ جميع الصحابة كانوا يعرفون مكانة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومنزلته، ولكن البعض حيث تصطدم مصالحه مع الحقيقة يحاول أن يغضّ طرفه عنها ولا يلتفت إليها لئلا تكدّر صفو إنغماسه في الهوى!.
لماذا هذا التعتيم لفضائل الإمام عليّ (عليه السلام) :
يقول الأخ مختار: " حينما كنت أدرس في معهد جامعة الملك سعود في الرياض، لفت انتباهي أنّ الأستاذ يتحاشا ذكر الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ويقتصر في استشهاده على أحاديث الخلفاء الثلاثة وجملة من الصحابة، فاستغربت من ذلك!.
وفي يوم من الأيام خلوت بالأستاذ بعد أن أتم الدرس فسألته عما كان يختلج في صدري، وقلت له: إنّ الخليفة عليّ بن أبي طالب كما هو واضح يتميّز بعلم وافر، ومعارف جليّة بين أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبلاغة رائعة تنفعنا في تقوية أدبنا العربي، ولكنّني أراكم لاتستشهدون بأقواله وخطبه وحكمه، وأنا أعلم أنّكم ممن ألمّ ببلاغته وأدبه وعلمه، فأحبّ معرفة السبب في ذلك؟
فرأيت بوادر الغضب والانفعال في وجهه وكأنّه أشمئز من تساؤلي!، فقال بنبرة حادّة: إنّ مهمتنا أن نقتبس النصوص الأدبية المختارة، وننقل ما ذكره السلف ولايعنينا غير ذلك، ثم أدار وجهه عني وانصرف.
فاعترتني الدهشة من تصرّفه! وأحسست أنّ أمراً ما يرتبط بعليّ بن أبي طالب قد خفى عليَّ! ".
إمامة الإمام عليّ (عليه السلام) بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم):
يضيف الأخ مختار قائلا: " بدأت من ذلك الحين أبحث في الكتب والمؤلفات، فقرأت جملة من الكتب التي ترتبط بحياة وسيرة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، حتى تبيّنت لي مكانته السامية في كافة المجالات.
ثم انقدح في ذهني هذا السؤال: لماذا لم يخلّفه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على الأمة من بعده؟! وكيف وسع لغيره أن يتقدّم عليه؟! إذ أنّه كان أحقّاً بالخلافة لوافر علمه الذي لايخفى على أحد.
فتتبعت الأمر، وإذا بي أجد نصوصاً كثيرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تؤهل علياً (عليه السلام) للخلافة من بعده، فقلت في نفسي: إذاً ما عدى مما بدى أن يترك الصحابة وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويرتؤا لأنفسهم خلاف ما ورد فيه النصّ؟.
وبمطالعتي للتاريخ تبيّن لي أنّ الأمر الذي أثار في نفوس الصحابة الحميمة وجعل المجتمع يستعذب الألم والفداء في نصرة الإسلام، هو جلالة النبوّة وعظمة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هو المحفز للأمّة لأن ترتقي وتتسامى، وهو الذي أخذ بيدها فرفعها إلى المراتب الرفيعة، ولكن ما أن توفى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ وفقدت الأمة محفزّها ومستنهضها، فعادت مرّة أخرى إلى طباعها التي كانت عليها من الركون إلى الدنيا والهبوط إلى المستويات الدانية ".
فالواقع الإسلامي بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خير شاهد على هذا الأمر، واختلاف الصحابة فيما بينهم وتناحرهم وشقاقهم وتغييرهم لسنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) شاهد آخر لذلك.
والمتتبع لسيرة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يرى أنّه كم اجتهد في زمن خلافته ليعيد الأمور إلى مجراها وبذل أقصى جهده لذلك، ولكن الظروف الاجتماعية البائسة التي أنشأها من قبله لم توفر له الإصلاح والتغيير، ولم يمض جيل واحد بعد عهد الرسالة إلاّ واستبدلت الخلافة الدينية بالملكية الدنيوية، ومحقت السنة وأضمحلت معالم الدين، ولم يبق في خضم هذه الأحداث من ينادي بالإصلاح في أُمة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ العترة من آل الرسول (عليهم السلام) وأنصارهم، في حين أذعن الجميع للسلطة وغضّ بصره عما كان يقع من الخلفاء من ظلم وتضليل وانحراف!.
الحصيلة الثمينة:
يقول الأخ مختار كونتا: " من ذلك الحين غصت في بحار معارف أهل البيت (عليهم السلام) ، وفي لحظات فذّة من تألق العقل وغوره في معارف العترة بدت لي الحقيقة بلون ساطع، فلم أجد بداً من الاستبصار والسير على نهجهم (عليهم السلام) الذين هم الذرية الطاهرة التي اصطفاها الله لتكون الامتداد الطبيعي للرسالة المحمديّة، وكان ذلك عام 1999م في إيران ". (1) السنغال: عاصمتها دكار تقع في أقصى الغرب في القارة الافريقية وتطل على المحيط الأطلسي، تحدها موريتانيا شمالاً وغينيا جنوباً ومالي شرقاً، يبلغ عدد سكانها قرابة (11) مليون، يشكل المسلمون نسبة 92% والباقي من المسيحيين والوثنيين، وينتشر المذهب المالكي بكثرة مع طرقه الصوفية، أمّا الشيعة فتتجاوز نسبتهم العشرة الآف بالإضافة إلى عدّة الآف من المهاجرين اللبنانيين، ولهم فيها مؤسسات ومساجد يقيمون فيها نشاطاتهم. (2) أنظر: نهج البلاغة: الخطبه 187. (3) أنظر: المناقب للخوارزمي: 90 (82)، ينابيع المودة للقندوزي: 1 / 214، الطبقات لابن سعد: 2 / 257. (4) أنظر: ينابيع المودة للقندوزي: 1 / 231. (5) أنظر: نهج البلاغة: خطبة 5. (6) أنظر: المناقب للخوارزمي: 83 (69)، الجامع الصغير للسيوطي: 1 / 415 (2705)، كنز العمال: 11 / 600 (32890)، المستدرك للحاكم: 3 / 137 (4637)، وغيرها. (7) أنظر: المعجم الكبير للطبراني: 22 / 416 (1030)، كنز العمال: 11 / 605 (32925). (8) أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق: 1 / 62 في (أحمد بن أسد بن شمر العبدي)، وعنه السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه: 4 / 390 (12736)، كنز العمال: 11 / 605 (32926). (9) أنظر: مسند أحمد: 5 / 26، الرياض النضرة للطبري: 2 / 138 (1442)، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 101، 114، وغيرهم. (10) أخرجه الديلمي عن سلمان في الفردوس: 1 / 370 (1491)، والخوارزمي في المناقب: 82 (67)، والمتّقي الهندي في كنز العمّال: 11 / 614 (32977). (11) أنظر: الفردوس للديلمي: 3 / 65 (4181)، كنز العمّال: 11 / 614 (22981)، ينابيع المودّة للقندوزي: 2 / 240. (12) أنظر: شرح النهج لإبن أبي الحديد: 9 / 165. (13) أنظر: شرح النهج لإبن أبي الحديد: 9 / 165، الجامع الصغير للسيوطى: 2 / 177 (5593)، تاريخ ابن عساكر: 42 / 385 / مناقب الخوارزمي: 87. (14) أنظر: فتح الباري للعسقلاني: 8 / 212 (4481)، تاريخ ابن عساكر: 42 / 241، الرياض النضرة للطبري: 2 / 143 (1471). (15) أنظر: مصابيح السنة للبغوي: 2 / 453 (2700)، شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 18. (16) أنظر: حلية الأولياء لأبي نعيم: 1 / 104 (198)، الفردوس للديلمي: 3 / 227 (4666)، تاريخ ابن عساكر: 42 / 384، فيض القدير للمناوي: 3 / 46. (17) أنظر: الإستيعاب لابن عبد البر: 3 / 1103، الرياض النضرة للطبري: 2 / 138 0 (1447)، تفسير النيسابوري سورة الأحقاف، مناقب الخوارزمي: 81 (65)، تذكرة الخواص لابن الجوزي: 137. (18) أنظر: تذكرة الخواص لابن الجوزي: 137، مناقب الخوارزمي: 97 (98)، نظم الدرر للزرندي: 132، أنساب الأشراف للبلاذري: 99 (29). (19) أنظر: إرشاد الساري للقسطلاني: 4 / 139 (15976) عن الحاكم، شرح النهج لابن أبي الحديد: 12 / 101، مستدرك الحاكم: 1 / 628 (1682)، فيض القدير للمناوي: / 470 (5594)، نصب الراية للزيلعي: 3 / 117. (20) أنظر: الرياض النضرة للطبري: 2 / 142 (1465)، مناقب الخوارزمي: 102 (104)، التذكرة لسبط ابن الجوزي: 137 فيض القدير للمناوي: 4 / 357. (21) أنظر: الرياض النضرة للطبري: 2 / 139 (1449). (22) أنظر: الاستيعاب لابن عبد البر: 3 / 1104، الرياض النضرة للطبري: 2 / 137 (1441)، مناقب الخوارزمي: 91 (84)، التاريخ الكبير للبخاري: 2 / 228، تاريخ ابن عساكر: 42 / 408، نظم درر السمطين للزرندي: 133. (23) أنظر: الاستيعاب لابن عبد البر: 3 / 1104، الرياض النضرة للطبري: 2 / 138 (1441).