محمد علي المتوكل

من ويكي علوي
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

محمد علي المتوكل

المولد والنشأة

ولد في السودان فى أوائل الستينات، وترعرع في أسرة سنية المذهب، واصل دراسته حتى تخرج سنة 1988م من جامعة القاهرة في الخرطوم.

خاض مع جملة من أصدقائه رحلة بحث فكرية، انتهت بهم إلى شواطىء الولاية لأهل البيت(عليهم السلام)، وكان ثمرة تلك الرحلة ـ بحسب تعبيره ـ هي الاكتشاف الكبير الذي أماط اللثام لا عن الحقيقة ولكن عن الأعين التي كان قد أعماها التقليد، وحجبها الموروث عن الإبصار.

مرحلة الحيرة والضياع:

يقول الأخ محمد علي: "كان التناقض واضحاً بين المعلومات الأولية التي نفذت إلى ذهني قبل مرحلة المدرسة والتي كان منها التقدير والتقديس للأولياء والصالحين وبين تلك التي زودتني بها المناهج الدراسية، ومن بعدها الجماعات الدينية السلفية التي كانت ترى كل ذلك شركاً وخرافات.

فلهذا تراكمت عندي أسئلة حيرى لا تنتهى واجابات يناقض بعضها بعضاً، فكنت لا انتقل من مرحله دراسية إلى أخرى إلاّ وازداد حيرة وضياعاً، وكلما كانت تزداد حصيلتي من المعلومات الدينية كنت أزداد معها تمزقاً في سريرتي".

الإنتماء إلى الجماعة السلفية:

ويضيف: "فلم أجد ملاذاً بعد أن أعيتني الحيرة واشتبهت على الأمور سوى الانتماء إلى الجماعة السلفية، وكان ذلك في المرحلة الثانوية، حيث يكون الشاب متنازعاً بين عدد من محاور الاستقطاب الفكري والسياسي...

وفي هكذا اجواء تسنى لي أن اتعرف على جماعة من الوهابيه فكنت اتردد معهم على المركز العام للجماعة، وهكذا تبينت معظم أفكارهم وعقائدهم، لا عن قناعة ولكن بحكم التوافق الاجتماعي وعامل الحشد، لأنّ معهم لا مجال للتفكير ولا دور للعقل بل عليك أن تسلّم بما يقولون.

فاستمرت علاقتي بهم فترة قصيرة، بدأت أشعر بعدها بالضياع من جديد، وانتابني احساس بأن المفاهيم التي اتلقاها منهم ناتجة عن فهم قشري للعبادة والاحكام الشرعية، وأن عبادة الله مع هؤلاء ليست إلاّ طقوس منضبطة شكلاً وفارغة من حيث المضمون، فلهذا بادرت إلى مفارقتهم وقطعت كل صلة لي بهم.

ومع الأيام كانت الحيرة تتفاقم والشك يتمدد في النفس على حساب كثير من المسلمات الهشة التي لا أساس لها إلاّ في العواطف الساذجة والقداسات المزعومة.

وكانت النتيجة أن فقدت الثقة بكثير من الاطروحات الدينية السائدة، واقبلت على حياة الشباب بعيداً عن قيود الدين. وهذا ما يحدث في الغالب مع اكثر الذين خاضوا تجربة الدين على النمط السلفي، ما لم ترتبط مصالحهم بالجماعة، عندئذ يكون الانتماء بدوافع غير دينية ويكون خطر الجماعة على المجتمع وخاصة الشباب عظيماً".

ارتقاء الوعي في الجامعة:

التحق الأخ محمد علي سنه 1983م بكلية الحقوق في فرع جامعة القاهرة في الخرطوم، وواجه فيها تيارات فكرية وسياسية متعددة، لكنه توخى الحذر في التعامل معها جميعاً.

فكان يتردد على أركان النقاش ويتجول بين الصحف ويسمع ويقرا للجميع، فلما احاط علماً بتيارات الساحة قرّر أن يلتحق بالحركة الإسلامية السودانية.

ومع انتصار الثورة الإسلامية في إيران لفت هذا الحدث انظار الحركيين في العالم السني إلى التشيع كمنهاج ديني ثوري قادر على قلب موازين الصراع الحضاري على مستوى العالم، فنشأ بين الطلبة نوع تعاطف مع هذه الثورة وقد اسهمت حالة التسامح الفكري داخل الاتجاه الاسلامي فى تعزيز هذه الاتجاهات والميول.

يقول الأخ محمد علي: "في فبراير من عام 1986م، بينما كنا في "الجبهة الاسلامية" نعد العدّة للانتخابات التشريعية، وقعت أحداث دامية بالجامعة أثر مشكلة افتعلها اليساريون، فتعرضت لإصابة كادت أن تؤدي بحياتي، فلهذا تقرر أن انتقل من الخرطوم إلى موطني في الشمالية وهناك شاركنا في قيادة الحملة الانتخابية للجبهة".

تأثر بعض الجامعيين بالفكر الشيعي:

يقول الأخ محمد علي: "كان معي في تلك الفترة أحد أقدم أصدقائي وكان على اتصال بمجموعة الثقافة الشيعية بالجامعة، فتعرف منهم على بعض ملاحظات الشيعة على التاريخ الإسلامي، ولهذا تشكلت لديه بعض القناعات التاريخية الخاصة، وكان يود أن يخبرني بما توّصل اليه من نتائج، لكنني كنت في ظروف لم تسمح لي التفرغ للاستماع إلى ما توصل إليه.

وانتهت الانتخابات بفوز مرشحينا، ففرحت بذلك فرحاً شديداً، لكن لم تدم نشوة النصر طويلاً، لأنني كنت على موعد مع صديقي حتى يطلعني على بعض النتائج التي توصل اليها نتيجة لبحوث أجراها في التاريخ الإسلامي، وما احدثته تلك النتائج من اهتزاز في بعض مسلماته التاريخية.

الحوار مع المتأثر بالفكر الشيعي:

وعند اللقاء افتتح حديثه بالكلام عن تعدد المذاهب في ظل الاسلام ونشأتها وما يتصف به بعضها من قوة أو ضعف، فعرفت من طريقة كلامه أنه يمهد للدخول في موضوع ربّما يكون به شيء من الغرابة.

وبالفعل فقد تطرق إلى الفتن التي تلت عهد الرسالة، وأخذ يضع جملة من الاستفهامات حول الواقعة وأسبابها واطرافها ونتائجها والمسؤول عن تبعاتها والدماء التي أهدرت فيها و...

فقلت له وقد غشيتني سحابة من الكآبة: يا أخي ما لنا وفتح ملفات كهذه، وأي نفع يأتي من ذلك، أليس حرياً بنا أن ننظر إلى الجوانب التي نفهمها من حياة الصحابة وندع تلك التي تستعصي على أفهامنا لأهلها؟

فقال: ولكن لو كنت تعلم أنّ انقساماً كبيراً وقع بين المسلمين نتيجة لتلك الأحداث أصبحوا بمقتضاه مذاهب شتى، لا تعدو مذاهب أهل السنة التي ننتمى اليها أن تكون بعضها، لعرفت عندئذ أن تلك الوقائع لم تقتصر آثارها على وقتها وأهلها وحسب، ولكنها امتدت إلى وقتنا هذا، ولا زال الشيعة، وهم قطاع من المسلمين لا يستهان به، ينتصرون للإمام عليّ في كل خلافته التاريخية...

قلت لصاحبي وقد بلغ الغضب منّي كل مبلغ:... هذه الموضوعات التي تريد بحثها، دع أمرها للعلماء الذين يعلمون أكثر منا حقيقة هذه الشبهات التاريخية... وانني لأن أنفي وقوع تلك الفتن تاريخياً وانسب الكذب للمؤرخين أهون عندي من أن ادين صحابياً.

فلاذ صاحبي بالصمت، لا أدري إذا ما كان صمته اقتناعاً بما قلته أم مداراة لي وتاجيلاً للنقاش".

الشعور بالحاجة الماسة إلى البحث:

يضيف الأخ محمد علي: "ثم عدنا إلى العاصمة، وهناك صادف أن التقيت بالمجموعة التي كانت تهتم بالشيعة، والفيت أنهم يصرون على أن هناك حلقات مفقودة في التاريخ الإسلامي الذي يجب أن يقرأ بعيداً عن العواطف والآراء المسبقة، فدارت بيني وبينهم حوارات عديدة، حتى تبين لي أنني بحاجة ماسة إلى اماطة اللثام عما خفي عليَّ من حقائق، فقررت مع فتية امتلكوا الشجاعة الكافية أن نخوض غمار البحث وأن نستسلم لنتائجه مهما كانت قاسية ومهما اصطدمت بالموروث وتعارضت معه.

عقبات أمام البحث والتحقيق:

وعقدنا جميعاً العزم على مواصلة البحث والتحقيق، وكانت المشكلة الأساسية التي تعترض طريقنا هي عدم وجود المصادر الشيعية وكان بين أيدينا مجموعة من الكتيبات الصغيرة ذات الطابع الثقافي ولكنها لم تكن تفي بالغرض إذ لا تتعرض كثيراً للمسائل الخلافية.

ومرت شهور ونحن بين مندفع يريد باباً يلج منه إلى عالم التشيع وآخر يتردد في حيرته يتمنى أن لو يزول الشك عنه فيعود إلى ما كان عليه من مذهب ومعتقد. اذ ما أقسى أن تتزلزل ثوابت الإنسان وتنحل سواري يقينه وهو يبحث عن الحقيقة ولا يجد اليها طريقا.

فحاولنا الاتصال ببعض من يحتمل اطلاعه على مسائل التاريخ والعقائد، إلا أن أحداً من الذين لجأنا اليهم لم يكن مستعداً للسماع منا والإجابة على تساؤلاتنا.

ومن ناحية أخرى فقد كنا فى حاجة إلى السماع من الشيعة والاطلاع على عقائدهم أكثر من حاجتنا لسماع خصومهم.

بداية الالمام بمكانة أهل البيت(عليهم السلام):

وفي تلك الفترة تنبهنا عن طريق بعض الكتيبات الشيعية التي كان طابعها ثقافيا وتربوياً إلى جهلنا بجانب كبير ومضىء من التاريخ الاسلامي يمثله رجال ونساء ولِدوا من رحم الرسالة وتفرعوا عن شجرة النبوة ونشأوا في مهبط الوحي، رجال طالما نشدناهم وبحثنا عنهم، يقيناً من أن الرسالة لابد لها من أمثالهم، وعندما غيبتهم عنا المؤامرة قمنا بإسقاط خصائصهم على غيرهم، وتوسمنا العصمة في من تعوزه العدالة، والعلم فيمن اعماه جهله.

ياله من وهم نسجناه على منوال اسلافنا ورحنا نقدسه تديُّناً ووفاء.

تلك الكتب كانت نوافذ فتحتها الأقدار لنا على أفق جديد من آفاق المعرفة والرشاد فكان لابد لنا أن نمضي قدماً لاستكشاف المجهول وازالة الحجب التي اسدلها المضلون على وجه الحقيقة".

التمسك بالدعاء للخروج من الحيرة:

يقول الأخ محمد علي: "وهنا كانت الحاجة ملحة إلى من يمسك بأيدينا ويكون دليلاً لنا فى متاهات التاريخ ومنعطفاته، فتوجهنا إلى المولى جل وعلا بالدعاء ضارعين، وفي مثل وضعنا ذاك يكون الدعاء هو السبيل الأوحد للخروج من دوامة الشك والحيرة، وأي نور يكون لنا في تلك الظلمات إن لم يجعل الله لنا نورا؟

ولم يمض إلاّ القليل حتى استجاب الله لدعائنا وجاء الفرج من حيث لم نحتسب.

ويضيف الأخ محمد علي: وهنا لابد أن أؤكد أني وحتى ذلك الوقت لم أكن أسعى لاعتناق مذهب جديد أو للتخلي عن ثوابت المذاهب السنية في العقائد والفقه والتاريخ، وكل الذي أردته هو التخلص من الشبهات التي طرأت لي بعد أن أثار الإخوة أمر الخلافات التي كانت بين الصحابة بُعيد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله).

ومن جهة أخرى اردت الحصول على المزيد من المعلومات والحقائق حول أهل البيت الذين خلت مناهجنا الدراسية من ذكرهم مع أنها حوت الغث والسمين من السِيَر والأخبار، وهذا في حد ذاته كان مثار تساؤل كبير!".

اللقاء الأول بشخصية شيعية:

استجاب الله دعاء هذه الثلة الطيبة فقيض لهم رجلاً جاء إلى السودان من ايران يُدعى الشيخ حسين الكربلائي، وكان يرغب في التعّرف على التجربة الديمقراطية الثالثة في السودان، وتبادل الرؤى والأفكار مع بعض القادة الإسلاميين حول قضايا التحالفات والتكتلات التي كانت سمة التجربة في بدايتها.

فيقول الأخ محمد علي: "ساقت الأقدار الشيخ حسين الكربلائي إلينا فنزل بالفندق الذي أعمل به، فوجدت في نفسي رغبة في التعرف عليه، فقمت ذات ليلة بالجلوس عنده في صالة الفندق وهو يشاهد النشرة الاخبارية المسائية، فعلقت على خبر ورد بالنشرة، وكان هدفي أن استدرجه حتى أفتح معه باب الحوار، وبالفعل حدث ذلك ودار بيننا حوار هادى فبهرني سعة أفقه ودقة معلوماته، ثم خطر لي خلال حديثه أنه قد يكون شيعياً.

فسألته بعد التردد: هل انت شيعي؟ وتوقعت أن يخرجه سؤإلى عن هدوئه واتزانه، وكأني عندما سألته كنت أقول له: هل أنت زنديق؟! ولكنه أجاب ودون أن يطرف له جفن: نعم أنا شيعي.

فقلت في نفسي: سبحان الله! يقولها غير متحرج ولا متأثم، أيحسب أنه يحسن صنعا!".

خشية الحوار مع الشيعة:

ثم توجه الشيخ إلى الأخ محمد علي قائلا: وماذا تعرف أنت عن الشيعة؟

قال الأخ محمد علي: وما عساني أعرف عنهم غير مفارقتهم للسنة والجماعة وجرأتهم على الصحابة وغلوهم في تقديس الإمام عليّ.

ثم أردف: لقد اطلعت مؤخراً على آراء الشيعة ومعتقداتهم ومواقفهم من الصحابة وكنت آمل أن التقي بشيعي حتى اسأله عن صحة ما ينسب اليهم.

ويقول الأخ محمد علي: قلت ذلك وأنا أحاول جاهداً أن اخفي عنه خليطاً من الاحاسيس التي اجتاحتني في تلك اللحظة وأنا التقي وجهاً لوجه بشيعي لأنني كنت اخشى أن يثبت لي بالادلة والبراهين أن كل الأمور التي اعتقد بها ليست إلا اباطيل واوهام.

لكنني حرصت أن أبدو أمامه متماسكاً ومعتداً بانتمائي المذهبي! فالمرء مهما كان هو ابن مذهبه، وإن جاز له الاعتراف بينه وبين قومه، باهتزاز الثقة فيه فليس له أن يكشف ذلك لأهل المذاهب المناوئة! انطلاقاً من روح العصبية هذه، ثم سمحت لنفسي أن أحادثه بلهجة فيها شيء من النصح والكثير من الاستهجان، فنحن ننتمي إلى الأصل، إلى السنة والجماعة وغيرنا مفارق لهذا الأصل.

الاسلوب الرائع في الحوار:

يقول الأخ محمد علي: "وكأنّ الشيخ حسين الكربلائي أدرك عمق الأزمة التي أعيشها، فتجاهل الهجوم الذي واجهته به وأخذ يحدثني عن العقل ودوره والمنهج السليم في قراءة التاريخ وخطر التعصب وخطأ التقليد في العقائد، حتى كاد ينسيني الموضوع الأساسي، وللحقيقة فقد استطاع بلباقته أن يمتص حماسي وينتزع تعصبي، فلم املك إلاّ أن أصغي إليه.

وبعد أن فرغ من حديثه حول مناهج البحث واُصول الفكر، لم يبد أي حرص على استدراجي أو تغيير قناعاتي، وكان خلاصة الحديث نصحه لي أن أبحث عن الحقيقة بتجرد وأن أحرر عقلي من إسار التقليد والموروث.

البحث في طي الكتب:

يضيف الأخ محمد علي: لم أكن أتوقع أن يكون للقائنا ذاك ما بعده، فهو نزيل بالفندق يغادره بين يوم وليلة فلا تبقى منه إلا ذكرى هذا اللقاء المثير، لذلك سألته أن يعد لي قائمة بالكتب الضرورية للبحث التاريخي والعقائدي.

فقال: هناك كتابان يعد كل منهما دليلاً كاملاً لمراجع البحث، كما يعدان من أقوى ما كتب حول الإمامة والمذاهب أحدهما (المراجعات) للسيد شرف الدين ولا اتوقع وجوده بالمكتبات السودانية، والثاني كتاب (الغدير) للعلامة الأميني وهو موجود عند مكتبة الدار السودانية للكتب.

تدخّل الألطاف الالهية في الأمر:

وهكذا ودعته وقد عقدت العزم على شراء كتاب (الغدير)، ولم يهنئني المنام في ليلتي تلك، إذ كان ذهني يسترجع محاور الحوار الذي دار بيننا مرّة بعد مرّة، وقد شغلني أمر الكتاب الذي تذكرت أنه الكتاب ذاته الذي اطلع صديقنا طاهر على أحد أجزائه فدخل وأدخلنا معه في هذه الطرق الشائكة التي لا تؤمن عقباها.

في صباح اليوم التالي وبينما كنت أتأهب للذهاب إلى المكتبة لشراء كتاب الغدير كان ساعي البريد يسلم إلى موظف الاستقبال مجموعة من الرسائل بينها مظروف مرسل عبري إلى أحد أصدقائي وكان على اتصال بمؤسسة البلاغ الإيرانية التي ترسل له كتيبات ثقافية صغيرة، غير أن الأمر كان مختلفاً هذه المرة فالمظروف أكبر من المعتاد، وكالعادة فضضت الظرف فوراً لأعرف الكتاب الذي بداخله.

وكم كانت المفاجأة كبيرة عندما أخرجت كتاب (المراجعات) من المظروف، بصراحة انتابني شيء من الخوف في تلك اللحظة، فالحدث لم يكن بكل المقاييس عادياً، في الليلة السابقة تجمعني الأقدار بعالم من علماء الشيعة وكنت من قبل أبحث عن أحد عوامهم! ثم أسمع بكتاب (المراجعات) للمرة الأولى فأجده في طريقي وأنا ذاهب لشراء الغدير! فلم يخامرني شك في تلك اللحظات أن أمرا ما له علاقة بالغيب يتحكم في إتجاه بحثنا، فليكن ذلك هو توفيق الله وهدايته التي يمن بها على من يسعى إليها (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (القصص: 69).

مع كتاب المراجعات:

أخذت أتصفح الكتاب وأتنقل بين عناوينه، فما من سؤال راود ذهني قبل ذلك إلا وكان الكتاب قد تناوله بشكل أو بآخر، وكأنه كُتب لأمثالي ممن تبيّنوا، في جانب من الطريق، أن هناك سبيلاً أخرى ربما كانت هي الأقرب; بل الأصوب. عدت بالكتاب إلى غرفتي وقد توقفتْ تلقائيا كل برامجي وأعمالي، وتعطلت الهموم إلا همّ واحد; هو اكتشاف الحقيقة.

شرعت في القراءة، وكأن الشيخ سليم البشري يجادل عنّي، ويطرح أسئلتي; بل يطرح ما هو أشمل وأعمق منها فيرد عليه السيد شرف الدين الموسوي بثقة العارف ويقين المؤمن، وأنا بين هذا وذاك تقذفني موجة من شك إلى أخرى من يقين ثم يحدث العكس، ويخامرني الشك حول الشيخ البشري وبساطة تعاطيه مع مناظره إذ يتنازل دون تردد عن موقفه كلما واجهه الآخر بالحجج والأدلة، وكأني وددت لو أنه يماري قليلا أو يبدي إصراراً على رأيه!! فأراجع نفسي وأقول ماذا يضير الرجل إن كان موضوعياً ومخلصاً للحقيقة؟ فهو بذاك إلى القوة أقرب منه الضعف، إذ لا يجد حرجاً في الاعتراف للطرف الآخر بقوة الحجة وسلامة الموقف وصحة المعتقد حتى ولو كان في ذلك اعتراف بالعكس.

كنت أطوي الصفحات طيا، في شبه ذهول عن الوقت وما يجري من حولي، وعندما كان وقت صلاة العصر كنت قد بلغت من الكتاب مداه وقلبت آخر صفحاته. ولقد قرأت من قبله الكثير، وتأثرت ببعض ما قرأت حتى اتخذته مرجعاً لحركتي وسكوني، بيد أن (المراجعات) كان شيئاً آخر! وساعات من نهار قضيتها متنقلاً بين صفحاته أجبرتني على العودة من أول الطريق، أرغمتني على وضع كل الماضي وكل الموروث على صدر علامة استفهام كبيرة!!

التأثر الشديد بكتاب المراجعات:

ويضيف الأخ محمد علي: والآن عليَّ أن أرى ذلك الذي أوصاني بهذا الكتاب، لأقول له إن الذي جمعني بك قد وضع بين يدي كتاب (المراجعات) الذي عهدي باسمه البارحة، فمن أنت؟ وماذا تريد؟ وكيف أتيت إلى هنا؟ ومن ذا الذي أرسلك إلينا؟ أتراك تعي أو تقصد ما تحدثه في حياتنا؟...

كل تلك الأسئلة كانت تتشابك في ذهني بينما كنت أطرق باب غرفته بيد مرتجفة، مددت إليه الكتاب، تناوله قائلا: نعم،إنه هو، من أين أتيت به؟ فأخبرته بقصته.

ثم سألني عن رأيي فيما قرأت، فقلت له: أرجعني (المراجعات) إلى نقطة الصفر، محا من ذهني وروحي كل الماضي، فما أحوجني الآن إلى من يمسك بيدي ويخرجني مما أنا فيه، وما أحسبه إلاّ أنت.

فرد بكل تواضع: استغفر الله، وهل أنا وأنت إلا سواسية في طلب الحق والبحث عن الهدى، ومع ذلك لا بأس في التحاور والتباحث فـ (إن أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله).

عندئذ حدثته عن المجموعة التي أشاركها البحث والتنقيب عن الحقيقة، فبدا متحمساً لرؤيتهم، وكنت بدوري أتعجل لقياهم حتى أزف إليهم الأخبار الجديدة وأطلعهم على (المراجعات).

وهكذا أطلعتهم على المستجدات التي كانت في نظرهم فتحاً وتوفيقاً إلهياً، ودليلاً على سلامة التوجه واستقامة طريق البحث.

لقاءات المجموعة مع الشيخ:

وفي أول لقاء للمجموعة مع الشيخ، كان هناك إحساس مشترك يغمر الجميع، الأحساس بآثار رحمة الله ودلائل الاستجابة للدعاء، وإحساس آخر بالألفة تجاه ذاك الرجل الذي كان بمثابة يد امتدت لغريق.

انتظمت جلساتنا معه صباحاً ومساء، طيلة شهر كامل، فتحنا خلاله كل الملفات المغلقة، تنقلنا بين أطلال الماضي وبحثنا تحت الأنقاض، أيقظنا الكثير من الحقائق النائمة في طي النسيان. تارة لا نملك إلا أن نسلم له ونوافقه الرأي، وتارة نعارضه ونقف وإياه على طرفي نقيض، ونثير الشبهات ونطرح الأسئلة. كنا، كمجموعة، نتنفق في بعض الأحيان، وأحيانا أخرى نختلف، عندما ينضم بعضنا إلى جانبه ويعارضه الآخرون، وهكذا كانت الرؤية تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، وقد تصدرت القضايا التاريخية قائمة الموضوعات المثارة".

اسلوب الشيخ في طرح الابحاث:

يقول الأخ محمد علي: "كان الشيخ يتحاشى التطرق إلى المسائل التي من شأنها استفزاز مشاعرنا، وبالمقابل يسهب في الحديث عن أهل البيت فلا نمل ولا نسأم; بل نطالب بالمزيد، إذ كنا لا نعرف شيئاً عنهم، ومن لم يعرف أهل البيت لم يعرف شيئاً من الإسلام.

شيئاً فشيئاً بدأنا ندرك أن الكثير من الحقائق المكتشفة لا يمكن قبولها إلا بعد التخلي عن مسلمات قديمة، وأننا بصدد التوصل إلى دعائم جديدة يقوم عليها الدين، وهي أعلى وأسمى من تلك التي توهمنا أن الدين قائم بها، بتعبير آخر، لقد بتنا، على ضوء تلك المستجدات، مطالبين باتخاذ موقف فاصل، ولا مجال للتمييع.

سارع بعضنا إلى اجتياز هذه العقبة النفسية واستطاع أن يتخطى الماضي ومخلفاته، والتقليد وقيوده، فلم يعد يتردد في القبول بنتائج البحث، مهما كانت قاسية ومريرة، ولكني ومعي آخرون، توقفت كثيراً وفكرت طويلاً لعلي أوفِّق بين هذا الولاء الذي أخذ يتجذر في قلبي لأهل البيت، وبين ولاءات سابقة، انتفت عوامل بقائها، ولم يبق منها سوى بعض الرواسب النفسية. ولكن هيهات (مَا جَعَل اللهُ لِرَجُل مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب: 4). ولا مكان للغير في نفس بات يعمرها الحب والولاء لأهل البيت.

في نهاية المطاف، وبعد شهر من الحوار الدائم، والتحقق من صحة الأدلة التي أوردها الشيخ في المصادر السُنية، كانت الرؤية قد اتضحت تماماً، وزالت الشبهات، وتخطينا الحواجز النفسية والعاطفية، ولم يبق إلا أن نتعرف إلى الدين من جديد بعد أن اكتشفنا الطريق الموصل له، وحددنا الجهة التي منها نأخذ ديننا.

عندئذ قرر الشيخ الرحيل، تاركاً خلفه خمسة مستبصرين وآخرين على طريق الاستبصار، يكونون فيما بعد نواة للتشيع في السودان، وبداية لحركة استبصار واسعة النطاق تشمل، في غضون عشرة أعوام، كافة أنحاء السودان، وتؤسس العديد من المؤسسات الثقافية التي تضطلع حتى الآن بدور مشهود في تصحيح المسار الفكري والعقائدي الذي تعرض عبر القرون لمؤامرات الطمس والتحريف".

مؤلفاته:

1 ـ "ودخلنا التشيع سُجداً":

صدر في طبعته الثانية عن دار الخليج العربي للطباعة والنشر سنة 1422 هـ.

كتاب يعرض تجربة جماعية في الاهتداء إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ـ ذكرنا طرفاً منها أعلاه ـ وكذلك يبحث في الشبهات المنهجية التي تتعرض طريق هذا الاهتداء مع الجواب عليها وفقاً لما يقوله أهل البيت(عليهم السلام)، كما يبحث في الإمامة والخلافة ويعرض الحوادث التاريخية التي مرّ بها المسلمون بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله).

ويحتوي الكتاب على ستة فصول:

الفصل الأول: في الطريق إلى حصن الولاية.

الفصل الثاني: شبهات منهجية: الإمامة في القرآن، أهل البيت، الوصاية، عدالة الصحابة.

الفصل الثالث: التبشير بالإمامة مع النبوة.

الفصل الرابع: الإمامة والخلافة.

الفصل الخامس: السقيفة الحقبة الثالثة.

الفصل السادس: وعاد الأمر إلى نصابه.

وقفة مع كتابه: "ودخلنا التشيع سجداً"

تواجه الباحث السني شبهات منهجية عندما يدرس نظرية الإمامة التي يقول بها مذهب أهل البيت(عليهم السلام) إذا أراد الاقتناع بها والاعتقاد بمحتواها خصوصاً بعد الشك بما تقوله مدرسة الخلفاء في هذا المجال، وذلك لرغبة هنا ببديلا يقينياً لا تعتريه الشبهات، فتراه يعيش في صراع فكري عميق ونزاع عقائدي شديد نتيجة تراكم شبهات الباطل خلال ما يربو على أربعة عشر قرناً من عمر الإسلام.

يتعرض الكاتب في هذا الكتاب إلى قصة استبصاره واعتناقه لمذهب أهل البيت التي تقدم طرف منها، ثم يذكر بعضاً من الشبهات المنهجية التي واجهته في مرحلة التحول من المذهب السني إلى المذهب الشيعي.

ويوضح أنّ الإمامة كانت موضع اهتمام النبيّ(صلى الله عليه وآله) منذ بدء الدعوة، بل أنّ العناية الالهية كانت تهيء الإمام عليّ(عليه السلام) حتى قبل الدعوة لهذا المنصب حالها حال اعدادها للنبوة والدين الإسلامي كَكُل، فلا يستطيع أحد أن ينكر العنايات الالهية بالنبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) قبل زمان نبوته، وهكذا كان الإمام عليّ(عليه السلام) محوطاً بها في ذلك الزمان أيضاً حتى قال أهل السنة: كرم الله وجهه.

ثم يستعرض الواقع التاريخي لقضية الإمامة بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) من يوم السقيفة المشؤوم إلى أيام حرب صفين، التي كانت امتداداً واحداً سعى فيه مغتصبي الخلافة وأنصارهم إلى إطفاء نور الإمامة الملازم لنور النبوة وأصل الدين.

شبهات منهجية:

الشبهة الأولى:

لا يوجد في القرآن نص صريح على ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، أو آية لا يعتريها الشك في خلافة الإمام عليّ(عليه السلام)، وإنّما هناك آيات تنوه بفضلهم وتحث على مودتهم يؤولها البعض خطأ بالإمامة وولاية الأمر. ولو كان الأمر صريحاً لما اختلف إثنان فيه.

مناقشتها:

1 ـ القرآن يتحدث عن قصص الماضين للاعتبار بها في بناء الحاضر والمستقبل ولا ينقلها فقط للتسلية، والرسالات السابقة تمهيد للرسالة الخاتمة لأنّ القرآن ينظر للبشرية باعتبارها كياناً واحداً يجري على آخرها ما جرى على أولها من السنن الالهية الثابتة.

ومن هذه السنن بل من أهمها سنة الاصطفاء الالهي للقادة، حيث نلاحظ الطرق المتواصل عليها في القرآن وذلك برفع شأن ذرية الأنبياء والتنويه بهم باعتبارهم صفوة الله وخاصته وأقدر الناس على تمثيل خلافة الله في أرضه.

وأهل البيت(عليهم السلام) وإن لم يذكروا مباشرة في القرآن إلاّ قليلا، إلاّ أنّ القرآن ما ذكر غيرهم من ذريات الانبياء إلاّ من أجلهم. وإذا كان ربّ العزة قد اتخذ من آل إبراهيم وآل عمران أنبياء فقد اتخذ من آل محمد(صلى الله عليه وآله) أئمةً. والإمامة أعظم درجة من النبوة وقد نالها إبراهيم(عليه السلام) النبيّ والرسول والخليل بعد هذه الدرجات وبعد ابتلاء خاص.

2 ـ لا فرق في الأهمية بين أحكام القرآن وأحكام السنة، وقد أوكل الله إلى نبيه أمر تبليغ الكثير من الأحكام المهمة التي لا يمكن التعرف عليها من ظاهر القرآن.

وقد قام الرسول(صلى الله عليه وآله) بتفصيل كل ما ورد في القرآن مجملاً، فالصلاة ـ مثلاً ـ ورد الأمر بها في القرآن مجملاً ولولا ما فصله الرسول من شأنها لما عرف عدد الصلوات ولا كيفية أدائها، وليس لأحد أن يقول كان ينبغي للقرآن أن يبيّن جميع تفاصيلها لأنّها عمادُ الدين، ولقد صرح النبيّ(صلى الله عليه وآله) بما لا يدع مجالاً للشك في أمر ولاية أهل البيت(عليهم السلام) وتواترت عنه الأحاديث في ذلك وتضمنتها الموسوعات الحديثية لمختلف المذاهب.

3 ـ لو أنّ الإمامة لم يقررها القرآن كسنة إلهية، ولم يدع رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى أهل بيته أئمة يهدون بأمر الله من بعده، ولو أنّ أتباع مذهب أهل البيت لم يقولوا بإمامتهم، لو أنّ كل ذلك لم يكن، لكان ضرورياً بحكم الفطرة أن نفترض ذلك النظام كما افترضنا وجود الله وترقبنا رسله، فأمر الدين لا يستقيم أبداً إلاّ بنبيّ أو وصي نبيّ، ولابدّ من قائم لله بالحجة في كل زمان كما يقول الإمام عليّ(عليه السلام) في نهج البلاغة: "لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً"(1).

الشبهة الثانية: الشورى ثابتة في القرآن والسنة كنظام للحكم والولاية بعد رحيل النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وهذا ما فهمه الصحابة من بعد النبيّ وعملوا به، فكان العهد الراشدي نموذجاً نادراً للشورى وحرية الاختيار على أساس من القيم والمصلحة العامة للإسلام والمسلمين، وهي خير من النظام السياسي القائم على الوراثة التي تعتبر من أسوأ الانظمة في التاريخ، وهذا ما توصلت البشرية إليه مؤخراً وبصورة غير مبرأة من العيوب فيما سمي بالديمقراطية.

مناقشتها:

إنّ أمر الإمامة ليس مسألة توارث للسلطة أو اتباعاً لمعايير الأحساب والأنساب، بل هو إصطفاء الهي جرياً على سنة الله في الماضين التي لا تتبدل ولا تتحول، وهذا الاصطفاء له مقومات ولم يكن اختياره سبحانه وتعالى للأئمة عشوائياً، وإنّما وفق معايير التفاضل التي بينها للناس وحضهم على التنافس فيها.

فكان لابد أن يكون قادة المسيرة هم الذروة في الكمال البشري، وهذه المواصفات هي مما لا يدركها في العباد إلاّ ربّهم، ومن هنا كان تنصيب أئمة البشرية وقادتها جعلاً الهياً على أساس الاجتباء والاصطفاء. وهذا لا يتعارض مع القول أن الله يؤيد أصفياءه ويعصمهم تمكيناً لهم من تبليغ رسالاته وتولي أمر عباده.

ولو أنّ الخيار كان قد ترك للناس ليتخذوا من بين أنفسهم أئمة، لاختاروا وفق معايير خاطئة ولمالت بهم الأهواء عن الحق، وحادت بهم العصبيات عن سواء السبيل.

وأما ما ادعي من شورى فهي ما أُتي بها إلاّ لتوجيه ما حصل بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله)من اقصاء للخلافة عن أولي الأمر الحقيقيين، وإلاّ فهي نظرياً تحتاج إلى ولي أمر حسب القرآن الكريم، وعملياً ما كانت إلاّ تنصيب بعد تنصيب ولم يدعها الخلفاء أنفسهم.

الشبهة الثالثة: إنّ حال الأمة الإسلامية يختلف عن أحوال الاُمم من عدة جهات:

1 ـ انقطاع الوحي بعد النبيّ محمد(صلى الله عليه وآله) وليس هناك أنبياء بعده فلا اصطفاء كما في الاُمم السابقة فكان لابد أن يتصدى الناس لولاية الأمر لسد الفراغ فيختاروا أحدهم لخلافة النبيّ عملا بقوله تعالى (وَ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38).

2 ـ لقد بلغت الاُمة الإسلامية من النضج بحيث لا تحتاج إلى وصاية بخلاف الاُمم السابقة، والدليل هو توقف الوحي وانقطاع بعث الأنبياء.

3 ـ القرآن لا يمكن تحريفه بينما حرفت الكتب السماوية السابقة فلا حاجة إلى أوصياء يقومون الانحراف.

مناقشتها:

1 ـ إنّ اصطفاء الأئمة من آل البيت(عليهم السلام) قد تم في زمان الوحي على لسان النبيّ(صلى الله عليه وآله) أيام تنزل القرآن وبهذا الاصطفاء اكتملت الرسالة وتمت النعمة.

2 ـ ادعاء نضج الاُمة ادعاء التوى عنق الحقيقة مرات ومرات لاجل اثباته، ومع ذلك لم يثبت منه شيء، فالأمة تحتاج إلى وصي يدير شؤونها وهذا ما أثبتته الاحداث بعد وفاة النبيّ بدءاً من السقيفة ومروراً بكل الفتن التي لفّت الصحابة كقطع الليل المظلم، ومن ثم قتل ابن بنت النبيّ(صلى الله عليه وآله) الحسين بن عليّ(عليه السلام) الإمام المعصوم، ومروراً أيضاً بكل عصور الجور والطغيان والفساد في القرون التالية، وانتهاء بما نحن عليه اليوم.

3 ـ نعم لم يحصل تحريف لفظي في القرآن، لكن قد حصل تحريف معنوي ناشيء عن الرأي واتباع المناهج الخاطئة في التفسير والاعتماد على الاحاديث الموضوعة والتزوير في اسباب النزول واتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، كل ذلك أدى إلى افراغ القرآن من محتواه فلم يبق إلاّ رسمه، والتاريخ يقول أنّ الاُمة قد ارتكبت في حق كتابها كل الذي حذرت منه، وصار الكتاب في مختلف العصور أداة طيعة بيد الطغاة وأئمة الجور يصرفون آياته وفق ما تمليه مصالحهم واهواؤهم.

وقد افترقت الاُمة إلى عشرات الفرق العقائدية والفقهية والكل يزعم صدوره عن القرآن ووروده إليه. ولقد ضلت الاُمة ـ والقرآن معها ـ يوم أن فصلت بينه وبين الثقل الآخر ـ أهل البيت ـ بينما كان النبيّ(صلى الله عليه وآله) يدعوهم للتمسك بهما معاً حتى لا يضلوا.

الشبهة الرابعة: عليّ كرم الله وجهه هو الرابع في ترتيب الصحابة، ولا أحد من المسلمين ينكر فضائله، على أنّ ذلك لا يعني تقديمه على الثلاثة الأوائل (أبو بكر وعمر وعثمان)، كما أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) لم يخصه بشيء أكثر مما خص به خلفاءه، أما ما يعتقده الشيعة في عليّ فهو غلوياً يأباه الدين، خاصة إذا عرفنا أنّ فريقاً من الشيعة يرفعونه إلى مرتبة الالوهية، حتى أنّه في أيام خلافته عاقب بعض المغالين المؤلهين له بالاحراق بالنار.

مناقشتها: لقد نزل أتباع مدرسة الخلفاء بمقام الإمام عليّ(عليه السلام) كثيراً فجعلوه رابع الخلفاء والصحابة ولم يقبل حتى هذا أمثال ابن عمر فنزل به دون الرابع.

والواقع إنّ الإمام عليّ(عليه السلام) له من الكرامات والمناقب مما جعله أن يكون نفس النبيّ(صلى الله عليه وآله) باختيار ربّ العزة في آية المباهلة.

وأول كراماته مولده الشريف في جوف الكعبة فكان أول وآخر من يولد فيها، وقد ربّاه النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) رداً لجميل أبي طالب وفاطمة بنت أسد اللذين ربياه في صغره، وهكذا قدّر الله لعليّ أن يلازم خير خلقه ويتتلمذ لدى معلم البشرية واستاذها الأعظم نبيّه محمد(صلى الله عليه وآله)، فكان إسلامه لم يسبق بشرك كما حصل للآخرين، فكيف يقارن به غيره فضلاً عن أن يقدم عليه؟! وهو أحد الدعائم الأساسية التي قام الدين متكئاً عليها، ولكل ذلك كان تبشير النبيّ(صلى الله عليه وآله) بامامته يسير جنباً إلى جنب مع تبليغ أركان الدين الاخرى، ولذلك أيضاً ضاق المنافقون ذرعاً وحسدوه فعملوا على منع تنفيذ وصية النبي(صلى الله عليه وآله) فاستهدفوا قداسة النبيّ(صلى الله عليه وآله)أيضاً.

الشبهة الخامسة: القول بالوصية، وبموقف متميز لأهل البيت، وخلافة الإمام عليّ للرسول من دون فاصل، كل ذلك ينطوي على اتهام صريح لجميع الصحابة وقد بايعوا خلاف من استخلف نبيهم، وبالتالي الطعن في عدالة الجميع بما فيهم كبار المهاجرين والأنصار، بل والخلفاء الثلاثة.

وعدالة الصحابة ثابتة باتفاق الجميع، وقام عليها الدليل من القرآن والسنة، فلا يجوز الطعن فيهم لأنّا عرفنا الدين والحق من خلالهم.

وأضف إلى ذلك أن القدح فيهم هو قدح في امكانيات الرسول(صلى الله عليه وآله) وقدراته التربوية التي بذلها معهم، مع أنّ الثابت هو أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) أعظم مرب شهدته البشرية وأنجح معلم في التاريخ.


مناقشتها:

1 ـ لا دليل للقائلين بعدالة كل الصحابة إلاّ التأويل الخاطيء لبعض آيات القرآن وتجاهل البعض الآخر، والاعتماد على المفتريات من الروايات، وتخصيص الأحاديث التي تذكر الصفات السلبية لبعضهم والتي تتنبأ بردّة بعض وانقلابهم وانحرافهم من الخط.

2 ـ الدور المفترض للصحابة بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) كنقلة لأحكام الدين عنه إنّما يرد إذا تحقق افتراض آخر، هو وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) دون وصية ودون تعيين لمن يشغل مكانه بعد رحيله.

3 ـ القرآن ذكر كثرة المنافقين مع النبيّ(صلى الله عليه وآله) كما سلط الضوء على سيرة أصحاب الأنبياء السابقين وذكر نقاط ضعفهم، وأورد قصصهم بتفاصيلها ليقرر حقيقة أن العدالة ليست ملازمة للصحبة، وأنّ ما جرى لأصحاب الرسل السابقين يجري مع أصحاب رسولنا الأعظم(صلى الله عليه وآله) حذوا النعل بالنعل وحذوا القذه بالقذة.

وبناء على ما تقدم نستطيع القول: أنّ الصحابة بشر اعتياديون خصهم الله بصحبة نبيّه الأكرم، فمنهم من أحسن الصحبة وأخلص الولاء، ومنهم من أضاع الفرصة منذ البداية، ومنهم نكث غزله من بعد قوة أنكاثاً.

وبالتالي ليس غريباً أن يكون المخلصون هم الأقلون عدداً، وأن تنقلب الاكثرية على الاعقاب وتتجاهل وصية النبي(صلى الله عليه وآله) أو تقوم بتأويلها بما يتفق مع مصالحها وأهوائها ثم تزعم أنها ما ارادت بما فعلت إلاّ إصلاحاً.

إمامة الإمام عليّ(عليه السلام):

لقد بشر النبيّ(صلى الله عليه وآله) منذ أوائل الرسالة بإمامة الإمام عليّ(عليه السلام)من بعده، فقد أنذر عشيرته الاقربين استجابة لأمر الله فعرفهم برسالته وعرض على من يؤازره منهم أن يكون له أخاً ووصيّاً وخليفةً من بعده، فأبى القوم إلاّ علي، هنالك توجه النبيّ(صلى الله عليه وآله) إليهم بقوله: "إنه أخي ووزيري ووصيّي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا"(2).

ومن هنا يظهر أنّ إهتمام النبيّ(صلى الله عليه وآله) بمستقبل الرسالة اقترن منذ الوهلة الأولى بالإعلان عن نبوته، ثم استمر في مختلف مراحل الدعوة إلى أن خفقت أجنحة الموت فوق رأسه الشريف، ويدل على ذلك أحاديث كثيرة منها: حديث المنزلة، وحديث الغدير، ورزية يوم الخميس، حيث أراد أن يكتب كتاباً لا تضل الأُمة بعده أبداً فمنعه عمر وقال: "انه يهجر"(3).

وبعد أن لبى رسول الله(صلى الله عليه وآله) نداء ربّه، انقلب القوم على أعقابهم واغتصبوا الخلافة والحكم، واضطر الإمام عليّ(عليه السلام) أن يساير القوم حفاظاً على أصل الدين ـ رغم مأساة السقيفة وما جرته على أهل البيت والاُمة من ويلات أولها ما أصاب الزهراء(عليها السلام) وآخرها لم ينته بكربلاء بل استمرت واستمرت إلى يومنا هذا ـ فكان يهدي الناس وهو خارج الحكم وينصح الخلفاء في مواقع الخطر على الإسلام أو في مجال تبيين أحكامه وتدعيم أركانه.

شورى الستة:

يلاحظ في هذه القضية أنّ الإمام عليّ(عليه السلام) دخل فيها وهو يعلم سلفاً أنّ النتيجة محسومة لغير صالح الإسلام والإمامة، لكنه أراد أن يوضح للناس بطلان دعوى القوم، فعندما اشترط عليه ابن عوف الذي حصل على امتياز الحسم في قضية الشورى من عمر الالتزام بسيرة الشيخين رفض ذلك مبيّناً بطلان سيرتيهما، كما أراد أن يبين تناقض قول عمر وفعله، لأنّ عمر قد أهله للخلافة في قضية الشورى، وكان من قبل يقول أنّ النبوة والخلافة لا تجتمع في بيت واحد.

وبعد أن رست الخلافة بالشورى العمرية على الشاطيء الأموي خرج عليّ(عليه السلام)، ليخاطب الناس بقوله: "أيها الناس لقد علمتم أني أحق الناس بهذا الأمر من غيري، أما وقد انتهى الامر إلى ما ترون، فو الله لاسالمنَّ ما سلمت أُمور المسلمين ولم يكن جور إلاّ عليّ خاصة إلتماساً لاجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرف".

تصدي الإمام عليّ(عليه السلام) للحكم:

يلاحظ المرء عندما يطالع لأول مرّة وقائع البيعة التي تمت للإمام عليّ(عليه السلام)في أعقاب مقتل عثمان، إن الإمام قال للناس: "دعوني والتمسوا غيري، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً"، ويتساءل كيف تقول الشيعة أنّ الإمامة وولاية أمر المسلمين من مختصات عليّ وأهل بيته بالنص، وأنها لا تنبغي لغيرهم، بينما يرد الإمام عليّ الأيدي التي امتدت لتبايعه؟

وفي مقام الجواب نقول: أنّ الإمامة ـ كما تقدم ـ لا تكون إلاّ عن طريق الاصطفاء والاجتباء الرباني شأنها في ذلك شأن النبوة، وليس على الناس إلاّ التسليم والطاعة، ويبقى الإمام إماماً حتى وإن لم يبايعه أحد.

إذاً فالإمام عليّ(عليه السلام) كان يدفع عن نفسه الامارة والحكم لا الإمامة، فهو لم يزل إماماً واجب الطاعة منذ أن مات النبيّ(صلى الله عليه وآله)، لم يقدح في إمامته إن تولى الحكم غيره، ويذهب البعض إلى أنّ علياً(عليه السلام) إنّما تمنّع أول الأمر حتى يلتف الناس حوله مع علمه أنهم غير تاركيه، ولو تركوه بناءً على طلبه "دعوني والتمسوا غيري" لا سقط في يده.

ونقول: إنّ مثل هذه المناورات والأساليب السياسية قد تصدر عن غيره(عليه السلام)، أما أن تصدر عنه، فذاك ما يأباه المبدا الذي أقامه الإمام عليّ(عليه السلام) وسار عليه، ولو كان مناوراً لما ردّ الشروط التي أملاها عليه عبد الرحمن بن عوف من داخل الشورى العمرية، بل لوافق عليها وتسلّم ـ بالتالي زمام الإمارة، وما كان لأحد بعد ذلك ان يسأله عن سيرة الشيخين التزم بها أم لا.

والحقيقة إنّ الإمام عليّ(عليه السلام) كان صادقاً مع نفسه ومع الناس إذ قال: "دعوني والتسموا غيري" لأنه أعطى تبريره لهذا الموقف بقوله: "إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت".

وقد كان(عليه السلام) خبيراً بما انطوت عليه نفوس القوم من الشبهات والاحقاد والأطماع، كما أن المتغيرات التي طرأت على الدولة الإسلامية في سائر نواحيها ـ خلال حكومة الثلاثة ـ كانت من السعة بحيث لا يمكن لعليّ(عليه السلام) ازالتها إلاّ بقرارات ومواقف حاسمة لا تقوم لها القلوب ولا تركن لها النفوس، وهو من جانبه لا يرضى أن يقرّ أوضاعاً لا تمت إلى الدين بصلة.

وفي ذات الوقت كانت ثقته بمن حوله ضعيفة ولا يأمن غوائلهم ولا يضمن مساندتهم له إذا ما قام بحركة اصلاحية كبيرة تعيد الوضع إلى سابق عهده أيام رسول الله(صلى الله عليه وآله); كما برهنت عليه الأحداث فيما بعد.

لكن الإمام عليّ(عليه السلام) تحت إلحاح الناس واجتماعهم عليه نهض بالأمر، وفي ذلك يقول: "أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ على العلماء ألاّ يقاروّا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت اخرها بكأس اولها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز"(4).

بهذه الكلمات العميقة يبين الإمام الدواعي والأسباب التي حملته على التصدي للامارة والامساك بمقاليد الدولة وأزمّة الأمور، ولولاها لظلّ كما هو يؤدي رسالته إماماً شاهداً على عصره. (1) نهج البلاغة: 97. (2) راجع تاريخ الطبري: 2 / ص 319 ـ 321. (3) صحيح البخاري، كتاب المرض: 7 / 9 صحيح مسلم، كتاب الوصية: 2 / 16 ط عيسى الحلبي، تاريخ الطبري: 3 / 193. الكامل لابن الاثير: 2 / 320. (4) نهج البلاغة: 49