محمد عبد الحفيظ
محمد عبد الحفيظ
المولد والنشأة
ولد عام 1960م في قرية "بنبان" في جمهورية مصر العربية، ونشأ في أوساط عائلة جعفرية النسب ومالكية المذهب.
اجتاز المراحل الدراسية الابتدائية والمتوسطة والإعدادية في مسقط رأسه ثم أكمل ما بقي منها في معهد أسوان الثانوي ـ القسم العلمي ـ ثم ذهب إلى القاهرة عام 1980م لمواصلة دراسته الجامعية، فالتحق بادىء الأمر بكلية طبّ الأسنان ثم انتقل منها إلى كلية الشريعة ثم انتقل منها إلى كلية الشريعة والقانون حتى تخرّج منها عام 1986م.
له رسالة بحث عن الأجرام السماوية في المناطق النائية باشراف الدكتور شاكر بدوي قدّمها لجامعة الأزهر عام 1987م.
بحثه عن الحقيقة:
توجه السيد محمد من منطلق ارواء تعطّشه الفكري للحقيقة إلى البحث عن الانتماء الذي يمنحه الطمأنينة والاستقرار، واندفع بشوق إلى البحث عن العقيدة التي تفرض نفسها على العقل بالأدلة والحجج والبراهين.
فيقول السيد محمد في هذا المجال: "كنت في ريب مما كنت أتعبّد به، وكنت أطلب الحقيقة، وفي إحدى المرات كنت في زيارة عمل إلى الإمارات العربية وذهبت إلى أحد مساجدها، وذلك لكي أرى الحقيقة، وعند ذهابي إلى هناك وجدت الناس في شك وريب مني ولم أجد أحداً أتكلم معه فيما يجول بخاطري من شكوك".
ولكن السيد محمد لم يفتر في بحثه عن الحق، بل بقي منتهزاً لكل فرصة مناسبة توفّر له أجواء التعرّف على الحقيقة، ثم عاد من الامارات إلى السودان ومنها إلى مصر، ثم سافر بعد ذلك إلى أوربا، ومنها إلى أمريكا عام 1990م، وشاءت الأقدار الإلهية في أمريكا أن تهيأ له الفرصة المناسبة للبحث عن الحقيقة.
فيقول السيد محمد عبد الحفيظ:
"وفي إحدى المرات... كنت في "سيائل" بولاية واشنطن على المحيط الهادي، وذهبت إلى المدرسة الإسلامية بهذه البلدة بقصد صلاة المغرب، والتقيت بأحد الإخوان وكان يسمى أبو طالب، والحقيقة لقد شدّني هذا الإسم بماله في قبيلتنا من إكرام وإعزاز، وعرفني به مدير المدرسة، فقال له: هذا محمد الجعفري من أولاد الإمام جعفر الصادق من جنوب مصر، ورحبتُ به، ورحَب بي، وذكرت له فضل هذا الإسم عندنا".
العثور على مصدر تلقي العلم:
التقى السيد محمد عبدالحفيظ بأبي طالب مرة أخرى، وتوفّرت الفرصة المناسبة للتكلّم معه، فيقول السيد محمد: "قلت له: يا أخي إنني تائه في نفق مظلم وأبحث عن الحقيقة" فارشده أبو طالب للذهاب إلى رجل من أهل العلم يدعى السيد محمد حسين الجلالي، فخابره السيد محمد بالهاتف واتفق معه على موعد لكي يتحدّث معه حول بعض المسائل العقائدية.
وجاء الموعد والتقى السيد محمد بالسيد الجلالي، فسأله السيد الجلالي بعدما تعرّف عليه وعرف بأنّه يدعى بالجعفري: ما هو السبب في تلقيبك بالجعفري، هل أنت جعفري النسب أم أنت جعفري العقيدة والمذهب؟ فقال له السيد محمد: "انني جعفري النسب وأبحث عن العقيدة والمذهب".
ومن هذا المنطلق شرع السيد الجلالي يعرّف له المذهب الجعفري، فكانت تلك الجلسة للسيد محمد بداية انطلاق للبحث عن العقيدة الجعفرية ومبانيها في التوحيد والنبوة والبعث والمعاد والعدل والإمامة.
بداية رحلة بحثه عن التشيع:
من هنا بدأت رحلة السيد محمد في البحث عن المذهب الجعفري، فشرع بدراسة موضوعية وبناءة من أجل التعرّف على مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وكان هدفه اختبار مدى قوة مباني هذا المذهب ومدى صلاحيته لاخراجه من دائرة الشك والارتياب وإدخاله في عالم النور واليقين.
ووفّر السيد الجلالي للسيد محمد المصادر المهمة التي تتعلّق ببحثه، وأذن له بالاستفادة من مكتبته التي كانت غنية بكتب تراث أهل البيت(عليهم السلام)، لا سيما الكتب الفقهية والعقائدية.
فأخذ السيد محمد بقراءة الكتب الشيعية بدقّة وإمعان نظر، ومن هنا أخذت معارف أهل البيت بيده وانتشلته مما كان فيه من حيرة واضطراب، فاستضاءت بصيرة السيد محمد بنور أحاديث العترة، ولم تمض فترة إلاّ ووجد نفسه في دائرة التشيع.
أهم دوافع انتمائه إلى التشيّع:
كان إعجاب السيد محمد بشخصية الإمام الصادق(عليه السلام) من أهم دوافع استبصاره واعتناقه لمذهب التشيع، فهو بالرغم من نشوئه في احضان الفقه المالكي، فقد تتبع المنبع الذي أخذ منه الإمام مالك، فوجد أنّ الإمام مالك كان من الذين استفادوا من علوم الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، فلهذا رأى أن الأصل هو أولى بالاتباع.
يقول السيد محمد في هذا الصدد: "فتشت عن آراء ومذهب الاستاذ الذي هو الأصل وليس الفرع، ووجدت من الأفضل اتباع من يتلقّى عن أبيه عن جده رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو الإمام جعفر الصادق".
كما أنّه قارن بين منهج الإمام الصادق(عليه السلام) ومنهج غيره، فوجد الإمام الصادق(عليه السلام)كما ورد عن مالك بن أنس: "... ما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً"(1).
وناهيك عن قول مالك، وجد السيد محمد نتيجة مطالعته لأحاديث الإمام الصادق أنه من عظماء أهل البيت(عليهم السلام)، وأن له منزلة رفيعة في العلم وأنّه يتمتّع بشخصية فذة يعجز عن وصفها اللسان البشري، فلهذا رأى من الواجب عليه اتباع هذا الإمام والأخذ بسيرته والاعتماد عليه في تلقي الشريعة التي جاء بها الرسول(صلى الله عليه وآله).
اعلانه للاستبصار ونشره للتشيع:
أعلن السيد محمد استبصاره بعد ذلك، ثم بادر إلى تأليف كتاب يحكي فيه عن كيفية تعرّفه وانتمائه إلى العقيدة الجعفرية، وسمّى كتابه: "لماذا أنا جعفري"، ولا يزال السيد سائر في درب العمل التوجيهي من أجل نشر مذهب أهل البيت(عليهم السلام)وتوعية الذين وقعوا فريسة الإعلام المضاد الذي سنّه بنو أمية وبنو العباس ضد أهل البيت(عليهم السلام).
مؤلفاته:
(1) "لماذا أنا جعفري؟":
صدر سنة 1413هـ ـ 1993م عن مؤسسة الأعلمي، بيروت.
يتألف الكتاب من مقدّمة وثلاثة فصول، جاء في المقدمة: تعريف الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) وتلميذه مالك بن أنس إمام المذهب المالكي.
ثم أشار المؤلف إلى وصية الإمام الصادق إلى علي بن جندب، كذلك أشار إلى كيفية بيعة الإمام علي(عليه السلام) للخليفة الأوّل.
أما الفصل الأول ففيه تبيين للعقيدة الجعفرية وهي عقيدة الشيعة من توحيد ونبوّة وإمامة وعدل ومعاد.
والفصل الثاني يتطرّق فيه إلى الفقه الجعفري، ويتعرّض فيه لعلوم ومسائل فقهية كثيرة.
والفصل الثالث يستعرض فيه المؤلف نسبه إلى الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)ويذكر بعض كتب الأنساب والمشجرات.
وقفة مع كتابه: "لماذا أنا جعفري"
البحث عن الأصل: جعفر الصادق أم مالك:
يقول الكاتب: "بما إني قد تربيتُ على الفقه المالكي ووجدت إن مالك أخذ وتتلمذ على يد الإمام جعفر الصادق كما يقول الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه الإمام مالك ما لفظه:
ومن الشيوخ الذين أخذ عنهم مالك وتأثر بهم في سلوكه الإمام جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين، وهو المعروف بجعفر الصادق. وكان رأس آل البيت في المدينة وتوفي سنة 148هـ.
وربما أحسّ الدارس هذه الأيام بشيء من الغرابة في أن يأخذ أحد أئمة أهل السنّة عن أحد أئمة الشيعة. والحقيقة أن واقع حياة المسلمين على عهد مالك وجعفر لم تكن كواقعها في هذا العصر الذي توجد فيه فجوة واسعة بين الفريقين.
هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى كانت شخصية الإمام جعفر من ناحية العلم والفضل والتقوى والتسامح لما يدعو كل مسلم مهما كان مذهبه إلى احترامه وإجلاله، وهل من مسلم إلاّ ويحب أبناء آل البيت، فما بالنا إذا كان هذا الابن غزير العلم، وافر الحكمة، كامل الأدب، زاهداً ورعاً، بعيداً عن الغلو، بريئاً من التطرّف، لا يحب الاعتزال. هكذا كان الإمام جعفر(2).
لذلك فتّشت عن آراء ومذهب الأستاذ الذي هو الأصل وليس الفرع، ووجدتُ من الأفضل اتباع من يتلقّى عن أبيه عن جده رسول الله وهو الإمام جعفر الصادق الذي قد اعترف بفضل الإمام العدو قبل الصديق جاء في كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر المتوفى عام 974هـ والمولود 899هـ، في ص201 عن الإمام الصادق ما لفظه: (ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد، وابن جريح، ومالك، والسفياني، وأبو حنيفة، وشعبة، وأيوب السجستاني) انتهى.
تعجبت من الإمام مالك كيف ينقل عن الإمام جعفر الصادق خمسة أحاديث فقط في الذي يشهد فيه الداني والقاصي على أن علوم وفقه الإمام جعفر الصادق ملأ جميع أرجاء المعمورة، وكيف مالك يتعلّم الفقه والعلوم الدينية على يد الإمام جعفر الصادق، ولم ينقل عنه في كتابه الموطأ إلاّ خمسة أحاديث فقط.
والسبب في ذلك قد يتّضح من أن الإمام مالك كتب كتابه بطلب من الخليفة العباسي، والكل يعلم بغض العباسيين لآل البيت وأمر الخليفة العباسي مالك بتأليف كتابه الموطأ نكاية بالإمام جعفر.
يقول الدكتور مصطفى الشكعة ما لفظه:
"وأما مناسبة تأليف الكتاب، فقد كانت نتيجة غير مباشرة للمحنة التي تعرض لها الإمام مالك حين ضربه والي المدينة العباسي بالسياط، على ما مر بنا قبل قليل، ثم رأى الملك العباسي المنصور أن يسترضيه، وتم التراضي على أن يلتقي الإمام والمنصور في منى في موسم الحج، وتم اللقاء بينهما وكرم المنصور مالكاً وجرى بينهما حديث طويل في شؤون شتى اتسم بالمجاملة ولم يخلُ من حوار في الفقه أو الحديث أو العلم، ولم يلبث الملك العباسي أن قال لمالك: يا أبا عبدالله، ضع هذا العلم ودوّنه، ودوّن منه كتباً، وتجنب فيه شدائد عبدالله بن مسعود، واقصد إلى أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة... لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك، ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم ألا يخالفوها، ولا يقضوا بسواها فقال مالك: أصلح الله الأمير، إن أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في علمهم رأينا، وفي رواية أخرى قال المنصور لمالك: اجعل العلم يا أبا عبدالله علماً واحداً، فقال له مالك: إن أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)تفرّقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رأى، وإن لأهل البلد ـ يعني مكة فقد كان اللقاء في منى ـ قولا، ولأهل المدينة قولا، ولأهل العراق قولا تعدوا فيه طورهم، فقال المنصور: أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلا، وإنما العلم عند أهل المدينة، فضع للناس العلم"(3).
ما ذكره الدكتور الشكعة واضح بان الإمام مالك لم يكتب الكتاب إلاّ لرغبة العباسيين، وان الملك العباسي فرض رأيه بهذا الكتاب على المجتمع الإسلامي فرضاً لم ينزل الله به من سلطان، وواضح هذا في مقدمة الملك العباسي المذكور (نحمل الناس على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار) بالرغم من علمها بعلوم الإمام جعفر الصادق وأهل البيت، وما ذلك إلاّ نكاية بآل البيت، لذلك نجد مالك يتعاطف مع العباسيين في عقيدته وفقهه.
مالك والغناء والمزاح:
ووجدت في الكتاب المؤلف عن مالك بأنه كان يحب الغناء ويحب اللهو ما لفظه:
"أما عن مالك والغناء فذلك خبر صحيح قديم، قديم قدم طفولة مالك، فقد استهواه فن الغناء وهو صغير، وأراد أن يتعلمه، وينتظم في سلك المغنين في الحجاز وفي المدينة على وجه التحديد التي كان للغناء فيها سوق نافقة لولا أن أم مالك كانت من الفضل وحسن التوجيه بحيث استطاعت أن تثنيه عن ذلك، وأن توجهه إلى تعلم الفقه على ما مر بنا تفصيلا في صدر هذه الدراسة.
فما هو حديث الغناء إذن؟ ولماذا نعود لإثارته بل وتحديد عنوان للحديث عنه؟
إن أبا الفرج الأصبهاني يذكر في "الأغاني" هذا الخبر الذي يقول: "أخبرني محمد بن عمرو العباسي القرشي، قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان ولم أسمعه أنا من محمد بن خلف، قال: حدّثني إسحاق بن محمد بن أبان الكوفي، قال: حدثني حسين بن دحمان الأشقر قال: كنت بالمدينة فخلا لي الطريق وسط النهار فجعلت أتغنى:
ما بالُ أَهْلُكِ يا رَبابْ ***** خُزُراً كأنهمُ غِضَابْ
قال: فإذا خوخة قد فتحت، وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء فقال: يا فاسق أسأت التأدية، ومنعت القائلة، وأذعت الفاحشة، ثم اندفع يغنيه فظننت أن طويساً قد نشر يغنيه، فقلت له: أصلحك الله، من أين لك هذا الغناء؟ فقال: نشأت وأنا غلام حدث اتّبع المغنين وآخذ عنهم، فقالت لي أمي: يا بني إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه، فإنه لا يضر معه قبح الوجه، فتركت المغنيين واتبعت الفقهاء، فبلغ الله بي عزّوجلّ ماترى، فقلت له: أعد جعلت فداك. قال: لا ولا كرامة، أتريد أن تقول أخذت عن مالك بن أنس، وإذا هو مالك بن أنس ولا اعلم"(4).
وحاول الدكتور الشكعة تكذيب الرواية مع اعترافه بأن مالك استهوى في الغناء منذ صغره، وانه أراد أن يسلك سلوك المغنين، وهذا لا تليق برجل عادي، فكيف بإمام مذهب يفرض على المسلمين لذلك، حاولت أن أتعرف على مذهب الإمام جعفر الصادق الذي هو أستاذ مالك، الإمام الصادق الذي ولد وعاش ومات في المدينة، وهو أعرف الناس بشريعة جده، وأهل البيت أدرى بما في البيت، ولذلك لا نستغرب من الذين عاصروا الإمام وشاهدوا تنكر الملك العباسي لأهل البيت، وذلك لمعرفة الإمام بأن أهل البيت أحق بالإمامة والخلافة منهم، وكل ذلك ما هو إلاّ سلب لحقهم.
العقيدة الجعفرية:
العقيدة في مذهب الإمام جعفر الصادق تتكون من خمسة أصول:
ثلاث منها تعتبر من أصول الإسلام وهي:
1 ـ التوحيد. 2 ـ النبوة. 3 ـ البعث والمعاد يوم القيامة، ومن أنكر واحدة من هذه الأصول الثلاثة يعتبر كافراً.
واثنان آخران هما: 1 ـ العدل. 2 ـ الإمامة وهما خاصان بالمذهب الجعفري، ومن ينكر واحدة من العدل أو الإمامة لا يعتبر كافراً بل حاله كحال المسلمين عامة له ما لهم وعليه ما عليهم، لكن لا يعتبر جعفري العقيدة حتى يؤمن بالعدل والإمامة.
الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) والحكام العباسيين:
ولابد من ملاحظة دور الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في تركيز العقيدة الإسلامية وموقف الحكام العباسيين ضد الإمام(عليه السلام). فان العباسيين اختطوا خططهم ضد آل البيت بأمرين:
أولا: تشجيع الإلحاد وكل الأفكار اليونانية والمجوسية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، وذلك لتشكيك الناس في معتقداتهم في الكتاب والسنّة الصحيحة.
وثانياً: خلق جماعات في داخل صفوف أهل البيت ليؤمنوا بالغلو في آل البيت حتى كادت هذه الجماعات المتطرفّة أن يؤله أهل البيت، وذلك لكي يشغلوا أئمة أهل البيت بأمور جانبية والوقوف في وجه هذه الفئات، وبالنتيجة لا يعرف عامة المجتمع الإسلامي مذهب أهل البيت الحقيقي.
ويقصد العباسيون من ذلك تشويه مذهب أهل البيت، وكان الإمام الصادق في أتم يقظة لهذه الخطط الجهنمية العباسية، كذلك اهتم ببناء العقيدة وتربية مجتمع اسلامي واع للإسلام عن دراسة وفهم.
التوحيد:
التوحيد هو الاعتقاد بأنَّ الله تعالى واحد لا شريك له كما قال سبحانه: (إِنَّ إِلَـهَكُمْ لَوَ احِدٌ * رَّبُّ السَّمَـوَاتِ وَ الاَْرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ رَبُّ الْمَشَارِقِ) (الصافات: 4 ـ 5).
"وفي شرح الأربعين: يعتبر التوحيد روح الأديان كلها أكّد عليه جميع الأنبياء والمرسلين يقول النبي هود(عليه السلام): (يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ) (هود: 50).
وهكذا غيره من الأنبياء(عليهم السلام) كالنبي إبراهيم(عليه السلام) وحتى عصر نبينا محمد(صلى الله عليه وآله)حيث استفتح دعوته إلى التوحيد بقوله: "قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا" كما كانت تقتضيه طبيعة المجتمع المشرك، الذي انبثق فيه الإسلام لتنزيه الدين عن الشرك والتعدد والتجسم، ونعني بالتوحيد: إن الله تعالى واحد في ذاته وصفاته فليس في ذاته تعدد من أشخاص ولا تركب من أشياء، وهذا يعبّر عنه بـ (توحيد الذات)، وإن صفاته تعالى من العلم والقدرة والحكمة ليست عارضة وزائدة على ذاته بل العلم نفس ذاته ويعبّر عنه بـ (توحيد الصفات)، وهذا ما يعنيه الإمام علي(عليه السلام) بقوله: (التوحيد أن لا تتوَهّمه).
ويقول الإمام الصادق(عليه السلام): (أما التوحيد فأن لا تجوِّز على ربك ما جاز عليك). فإن المسؤولية في الحياة تقع على كل فرد إذا كانت تناط بالجميع، وتنحصر المسؤولية في فرد خاص إذا كانت بمستوى خاص، فلا يصح أن يترأس دولة واحدة رئيسان، ولا على المملكة ملكان، ولا على الحكومة أميران، بل لا يجوز للمدرسة الواحدة أن يتعدد المدير هذا هو الشأن في مملكة الإنسان، لماذا؟ لأن المسؤولية إذا تعددت وتعدد الملك والرئيس والأمير، بل وحتى المدير جاز للفرد أن يفكّر في عصيان أحدهما متظاهراً بالطاعة للآخر، وبالنتيجة يختل نظام المسؤولية، فإذا كان هكذا شأن نظام الإنسان فما هو شأن نظام الكون الدقيق الذي لا يمكن أن يصدر إلاّ من قدرة عليا؟ إن الإيمان يستلزم التوحيد فإنه لا يمكن أن تتعدد القدرة العليا إذا لو تعددت فلا تكون هناك قدرة عليا، لأن التعدد يعني عجز احداهما عن الأخرى فأين القدرة العليا؟ وهذا ما يؤكده الإمام علي(عليه السلام) بقوله: (أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق [الإيمان] به، وكمال التصديق به توحيده) فالإِيمان بلا توحيد يعني عدم الإِيمان بالذي على كل شيء قدير..."(5).
النبوة:
إن الله سبحانه تعالى أرسل الأنبياء لهداية البشرية إلى طريق السعادة أولهم أبو البشر آدم(عليه السلام) وآخرهم نبينا محمد(صلى الله عليه وآله).
قال الشيخ الصدوق المتوفى سنة 381هـ:
"اعتقادنا في عددهم أنّهم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، ومائة ألف وصي وأربعة وعشرون ألف وصي، لكل نبي وصي أوصى إليه بأمر الله تعالى، ونعتقد فيهم أنهم(عليهم السلام) جاؤا بالحق من عند الحق، وأنّ قولهم قول الله وأمرهم أمر الله، وطاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله، وأنهم(عليهم السلام) لم ينطقوا إلاّ عن الله، وعن وحيه، وان سادات الأنبياء خمسة الذين دارت عليهم الرحى، وهم أصحاب الشرائع، وهم أولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد(عليهم السلام). وانّ محمداً(صلى الله عليه وآله)سيدهم وأفضلهم وأنّه جاء بالحق وصدَّق المرسلين، وانّ الذين كذّبوه لذائقون العذاب الأليم، وإنّ الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون الفائزون(6).
وفي شرح الأربعين:
العدالة تستلزم هداية البشر إلى طريق الخير والسعادة، فإن الإهمال يعني الإضلال، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا ) (الإنسان: 3).
وهداية الإنسان بواسطة رسولين، الأول رسول الباطن وهو الفكر والعقل، والثاني: رسول الظاهر وهو النبي، ويكون دور الأنبياء هداية الفكر الإنساني إلى الحياة الفضلى، والنبوّة رسالة إلهية وسفارة دينية لهداية الإنسان إلى الصراط المستقيم والنجاة في الدنيا والآخرة، ومهمة الرسل والأنبياء إيقاظ القلوب وتوجيه الإرادة البشرية نحو الكرامة والسعادة.
قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأنعام: 48).
وقال سبحانه: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُو قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (الأعراف: 85).
وإذا تأمّل الإنسان أدوار حياته وتدرجه في مراحل الولادة فالرضاعة فالطفولة فالمراهقة حتى استوى عضواً كاملا نافعاً في المجتمع الإنساني وكلما ازداد كمالا ازداد يقيناً بأن الإنسان في حياته يحتاج إلى موجِّه ومرشد يوجهه إلى السير الأفضل في الحياة، هذا هو شأن المجتمع الإنساني الذي يمرّ بمراحل التطور الفكري في العقيدة والشريعة، ويفتقر في سيره التكاملي إلى الموجّه والمرشد ذلك هو دور الأنبياء(عليهم السلام)، وهذا ما يفيده كلام الإمام الصادق(عليه السلام): (إنا لما اثبتنا ان لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً، ثبت ان له سفراء يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقائهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه وهم الأنبياء(عليهم السلام)). ولهذا السبب اقتضت الحكمة الإلهية أن يرسل الأنبياء بشراً مثل سائر الناس يعظونهم بنفس اللغة التي يتفاهم به الناس.
البعث والمعاد:
قال الشيخ الصدوق:
"اعتقادنا في البعث بعد الموت أنه حق". قال النبي(صلى الله عليه وآله): "يا بني عبدالمطلب إنّ الرائد لا يكذب أهله، والذي بعثني بالحق نبيّاً لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وما بعد الموت دار إلاّ الجنة أو النار"، وخلق جميع الخلق وبعثهم على الله عزَّوجلَّ لخلق نفس واحدة ذلك قوله تعالى: (مَّا خَلْقُكُمْ وَ لاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْس وَ احِدَة) (لقمان: 28)"(7).
وفي شرح الأربعين: كل منا يعلم أن للحياة في الدنيا خاتمة ـ آتية لا محالة ـ وليس للحياة في الدنيا خلود (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (الزمر: 30)، وأما بعد هذه الحياة التي نعبّر عنها (بالموت) فهل هناك حياة أخرى؟ أم ان الإنسان ينعدم بالموت ولا حياة اخرى؟ أكدت الأديان السماوية على الحياة الثانية، وإن فيها يكون العدل والحساب يثاب المطيع ويعاقب العاصي، ويعتبر الحياة الدنيا دور العمل والآخرة دور الجزاء قال تعالى:
(تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ * الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك: 1 ـ 2).
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ) (المؤمنون: 115).
ويقول الإمام علي(عليه السلام): (إنما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم واخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج أبدانكم ففيها اختبرتم ولغيرها خلقتم)(8).
إذاً فالموت حياة تتعقب الحياة الدنيا ذلك أن الإنسان متكون من روح وجسد، والروح هي الشخصية الأخرى التي لا تتغير باختلاف الأحوال... والموت يفرق بين الروح والجسد، ولا يبقى في القبر سوى الجسد الذي سوف يتحول إلى حالات أخرى، وتبقى نسبة التراب إلى الإنسان ولو بعد آلاف السنين، والشيء الذي يمنع من الاعتقاد بالمعاد هو: إن جسد الإنسان الميت بعد هذه التطورات كيف يتكون من جديد؟ وكيف يصير حياً بعد انعدامه بآلاف السنين؟ وقد يبدو سؤالا بلا جواب، ولكن لحظة قصيرة مع العلم توقفنا على أن الإنسان باعتباره موجوداً مادياً، لا يتصور فيه كيمياوياً الفناء والعدم وإنما تطرأ الأحوال المختلفة على العنصر والمادة ونكتفي بمثل بسيط فالماء مكوَّن من عنصرين هما غاز الأوكسجين وغاز الهيدروجين يمكن تجزئتهما بالتحليل الكيمياوي، فإذا تركب عنصر الأوكسجين مع الهيدروجين يتكون الماء، وإذا تركب مع شيء آخر يتكون شيء آخر، إذاً فغاز الأوكسجين عنصر تطرأ عليه الحالات المختلفة ويمكن تحليلها كيمياوياً بتجزئة العناصر الطبيعية من غيرها، والإنسان بموته إنما تنتقل عناصره المادية إلى حالة أخرى، والله العالم بكل شيء، عالمٌ بحالتي الإنسان قبل الموت وبعده، وعالم بمصير عناصره، وبما أنه تعالى القدرة العليا فهو قادر على تجزئة هذه العناصر وتحليلها حتى يتكوّن الإنسان الذي تحولت هذه العناصر منه فيكوّنه إنساناً من جديد برد الروح إليه قال تعالى:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَ هِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَل مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 260).
وتصح نسبة الإنسان المكوَّن من نفس العناصر والروح ولو بعد آلاف السنين، كما تصح نسبة القبر إلى من دفن فيه قبل آلاف السنين، وهكذا يعتبر الاعتقاد بالبعث والمعاد امتداداً للاعتقاد بالقدرة العليا وإن الله على كل شيء قدير، فإنك لم تكن موجوداً فوجدت والقدرة التي أوجدتك من العدم قادرة على ايجادك من العدم بعد الموت.
قال تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَ هِىَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّة وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيمٌ)(9).
العدل:
العدل معناه أن الله سبحانه وتعالى عادل لا يظلم أحداً حيث ان الظلم لا يصدر إلاّ من العاجز أو المحتاج، والله سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك لانه على كل شيء قدير، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْـلِمُ النَّاسَ شَيْـاً وَ لَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْـلِمُونَ) (يونس: 44).
وقال الشيخ الصدوق:
إن الله تبارك وتعالى أمرنا بالعَدْل وعاملنا هو بما فوقه وهو التفّضل، وذلك أنّه عزَّوجلَّ يقول: (مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْـلَمُونَ) (2الانعام: 160) والعدل هو أن يثيب بالحسنة الحسنة ويعاقب على السيئة بالسيئة. قال النبي(صلى الله عليه وآله): لا يدخل رجل الجنة بعمله إلاّ برحمة الله عزَّوجلَّ(10).
وفي شرح الأربعين: والإيمان بالله يستلزم الإعتقاد بأنه عادل حيث أن الظلم لا يصدر إلاّ من العاجز لجهل أو احتياج فيتوسل بالظلم لشفاء غضبه أو سدّ حاجته، والله سبحانه العالم بكل شيء والقادر على كل شيء لا يتصور فيه الظلم والجور وهو الغني الحميد، وهذا ما يؤكّده الإمام السجّاد(عليه السلام) بقوله: (إنما يحتاج إلى الظلم الضعيف والله أقدر من ذلك)، لذلك نعتقد بأن الله تعالى لا يظلم أحداً، ولا يجبر أحداً على أي عمل كان كما قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا ) (الانسان: 3) ويقول الإمام علي(عليه السلام): (العدل أن لا تتهمه).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): (وأما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه). وقال(عليه السلام) أيضاً: (إن الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون). وقال(عليه السلام)أيضاً: (ما كلَّف الله العباد كلفة فعل ولا نهاهم عن شيء حتى جعل لهم الاستطاعة ثم أمرهم ونهاهم فلا يكون العبد آخذاً ولا تاركاً إلاّ باستطاعة متقدمة قبل الأمر والنهي...).
ويقول الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام): (إن الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون فأمرهم ونهاهم فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه...). وما جبر الله أحداً من خلقه على معصية بل اختبرهم بأنواع البلوى كما قال تعالى: (ليبلوكم أيّكم أحسن عملا) (الملك: 2) فما نجد في الناس من تفاوت من اختلاف حالات الغنى والفقر والصحة والمرض والمقام ونحوها ليست إلاّ بسعي الإنسان وبتقدير الله كما قال تعالى: (وَ أَن لَّيْسَ لِلاِْنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) (النجم: 39 ـ 40)، ومعنى السعي ان الإنسان بحريته يختار سبباً من الأسباب، وبالنتيجة يترتب الأثر المفروض المقدر، وقد جعل الله تعالى جميع البشر سواء في هذه الحرية.
ولم يدع إرشاده في استخدام هذه الحرية في سبيل الحياة السعيدة بالمشورة والتدبير (وَشَاوِرْهُمْ فِى الاَْمْرِ) (آل عمران: 159)، (ولا عقل كالتدبير)، فإذا أهمل الإنسان بنفسه إرشادات العقل وأوامر الشرع ولم يكن له تدبير ولا مشورة ممن ينبغي مشورته، فطبيعي أن يترتب على ذلك الشقاء والتخلّف والبؤس واختلال الاقتصاد والمعاش والإبتلاء بالفقر والحرمان، وليس الظالم إلاّ من أهمل التدبير والمشورة التي أمر بها الله تعالى ونبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله)(11).
الإمامة:
إنّ النبيّ الساهر على مصالح الإسلام والمسلمين لم يهمل أمر الخلافة والإمامة من دون ابداء رأيه الواضح والصريح فيه لأنه لابد من قيادة حكيمة تطبق الدستور الإسلامي على نفسها وعلى المجتمع على حدٍّ سواء، لذلك لا يحق للظالمين أن يدّعوا الامامة كما قال الله تعالى لإبراهيم: (إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124).
قال الشيخ الصدوق: واعتقادنا أن حجج الله على خلقه بعد نبيه محمد(صلى الله عليه وآله)الأئمة الاثنى عشر أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ثم الحسن(عليه السلام)، ثم الحسين(عليه السلام)، ثم علي بن الحسين(عليه السلام)، ثم محمد بن علي(عليه السلام)، ثمّ جعفر بن محمد(عليه السلام)، ثم موسى بن جعفر(عليه السلام)، ثم علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، ثم محمد بن علي(عليه السلام)، ثم علي بن محمد(عليه السلام)، ثم الحسن بن علي(عليه السلام)، ثم الحجة بن الحسن القائم بأمر الله صاحب الزمان، وخليفة الرحمن في أرضه الحاضر في الأمصار الغائب عن الأبصار، صلوات الله عليهم أجمعين. واعتقادنا فيهم أنهم أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، وانهم شهداء على الناس، وانهم(عليهم السلام) أبواب الله والسبيل إليه والأدلاّء عليه، وأنهم(عليهم السلام) عيبة علمه وتراجمة وحيه وأركان توحيده، وأنّهم معصومون من الخطأ والزلل، وأنهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وإن لهم المعجزات والدلائل، إنهم أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، ومثلهم في هذه الأمة كسفينة نوح من ركبها نجى، وكباب حطة وانهم عباد الله المكرّمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، ونعتقد فيهم(عليهم السلام) أنّ حبّهم إيمان وبغضهم كفر، وانّ أمرُهم أمر الله ونهيُهم نهي الله، وطاعتهم طاعة الله ومعصيتُهم معصية الله، ووليّهم ولي الله وعدوّهم عدوّ الله، ونعتقد أن الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً(12).
موقف الإسلام من القيادة:
وموقف الإسلام من القيادة وأهميتها ومواصفاتها يظهر جلياً من سيرة النبي(صلى الله عليه وآله)في العشر سنين الأخيرة من حياته التي قضاها في المدينة، فما كان(صلى الله عليه وآله)يذهب إلى غزوة إلاّ ويؤمّر على المدينة أميراً، وما كان يرسل سرية إلاّ ويجعل عليها قائداً وآخر سرية أمر عليها أسامة بن زيد بالرغم من صغر سنِّه.
ويعتبر هذا أمراً ضرورياً إذا لا يمكن للمجتمع الإنساني أن يعيش فوضى، بل لابد من قيادة حكيمة تطبق الدستور على نفسها وعلى المجتمع.
فقد قال تعالى لإبراهيم(عليه السلام): (إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124).
فلا يحق للظالم أن يتولى الإمامة وكل عاص ظالم لقوله تعالى: (وَ مَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات: 11).
وقوله تعالى: (فَمَن تَابَ مِنم بَعْدِ ظُـلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة: 39).
وقوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الاَْمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128).
وهذا ما يؤكّده الإمام الرضا(عليه السلام): (إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وامضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف، والإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله) لذلك نجد من كلام الإمام الصادق(عليه السلام): (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية). وقوله: (لا يصلح الناس إلاّ بإمام ولا تصلح الأرض إلاّ بذلك).
والإمام السجّاد(عليه السلام) يشير إلى واجبات القائد في الدعاء (47) من الصحيفة السجادية بقوله: (اللهم... أقم به كتابك وحدودك وشرائعك وسنن رسولك(صلى الله عليه وآله)وأحيي به ما أماته الظالمون من معالم دينك، وأجل به صداء الجور عن طريقك، وآمن به الصراط من سبيلك، وأزل به الناكبين عن صراطك، وامحق به بغاة قصدك عوجاً).
ويقول الإمام علي(عليه السلام): (أأقنع من نفسي بأن يقال لي: أمير المؤمنين، ولا أشاركهم مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في بحبوبة العيش).
المهدي المنتظر(عليه السلام):
ليست العقيدة بالمهدي المنتظر(عليه السلام) عقيدة مختصة بالشيعة بل هي عقيدة إسلامية يعتقد بها جمهور علماء المسلمين ـ سُنَّةً وشيعة ـ وهم يتفقون على أنه من أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) وإنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلماً ـ قال ابن حجر في كتابه (الصواعق المحرقة): (ص160 طبعة القاهرة سنة 1375هـ). في أحاديث المهدي ما نصه:
(ومن ذلك ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وآخرون: "المهدي من عترتي من ولد فاطمة" وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة "لو لم يبق من الدهر إلاّ يوم لبعث الله فيه رجلا من عترتي"، وفي رواية: "رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جوراً" وفي رواية لمن عدا الأخير "لا تذهب الدنيا ولا تنقضي حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي") وفي هامش الصفحة (163) ما نصه (أحاديث المهدي كثيرة متواترة ألّف فيها كثير من الحفاظ منهم أبو نعيم، وقد جمع السيوطي ما ذكره أبو نعيم وزاد عليه في (العرف الوردي في أخبار المهدي)، وللمؤلف ابن حجر فيه كتاب المختصر في علامات المهدي المنتظر).
وهذا مما اتفقت عليه كلمة المسلمين والخلاف في أنه هل ولد بالفعل؟ أم أنه لم يولد بعد؟ وجمهور السُّنَّة على الثاني والشيعة على الأول، والشبهة الوحيدة التي تعتبر أساس الإنكار هي مسألة طول العمر وإن ذلك ممتنع عادة، فكيف يعيش الإنسان هذه المدّة الطويلة وغيرها من الشبهات راجعة إليها؟ وقد بالغ بعض المؤلفين في هذه الشبهة حتى اعتبر (المهدوية) يوتيبية في حين أن أشباه ذلك واقع في التاريخ بنص القرآن الكريم، وإن ذلك كله واقع تحت قدرة الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير.
وقد قال تعالى في نوح النبي: (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ ى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ) (العنكبوت: 14).
وقال تعالى في أصحاب الكهف: (وَ لَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِاْئَة سِنِينَ وَ ازْدَادُواْ تِسْعاً) (الكهف: 25).
وقال تعالى في عزير النبي: (أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى وشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْىِ ى هَـذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُو قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَام فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُو قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ) (البقرة: 259).
تلك هي قدرة الله التي تفوق كل قدرة، تلك القدرة التي جعلت النبي عيسى(عليه السلام)حياً حتى اليوم، قال تعالى فيه: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ) (النساء: 157). لهي قادرة أيضاً على تطويل العمر أكثر من المتعارف وهو على كل شيء قدير، فالمهدي المنتظر(عليه السلام) حي بقدرة الله كحياة عيسى(عليه السلام) إذ ثبت بالدليل والسُّنَّة الصحيحة ـ وعلى الأقل في نظر المعتقد ـ عن النبي(صلى الله عليه وآله) فلا مجال لانكارها إذ هو إما إنكار لقدرة الله تعالى أو إنكار للسنة النبوية.
وهذا جمهور المسلمين يعتقدن بحياة النبي الخضر(عليه السلام) وهو أكثر عمراً من الحجة(عليه السلام)، فقد جاء في هامش الصواعق المحرقة (ص223 طبعة القاهرة سنة 1375هـ) ما نصه: (ذكر النووي في تهذيب الأسماء أن أكثر العلماء مقرّين على أن الخضر حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح، وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن يحصى وأشهر من أن يذكر).
ولو غيرنا من كلام النووي إلى قوله (الخضر) بكلمة (الحجة بن الحسن) لكان ما تقوله الشيعة تماماً بلا أدنى تفاوت، فإن الكلام في (خضر) و(الحجة) واحد، إذ كلاهما ثبت بالسُّنَّة النبوية الصحيحة ـ وعلى الأقل من وجهة نظر معتقديها ـ والاعتقاد بحياتهما امتداد للاعتقاد بقدرة الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير.
ويبقى سؤال جدير بالملاحظة هو أن غيبة الإمام تنافي وجوب الإمامة، فإن الغرض من نصب الإمام إنما هو بيان أحكام الإسلام وتنفيذها ومن هنا نشأ اتهام الشيعة بـ (اليوتيبية) والغيبية البعيدة عن واقع الحياة ولكنه اتهام ظالم ذلك أن طائفة عاشت برهة طويلة من التاريخ واحتفظت بكيانها ـ رغم المضايقات ـ لا يمكنها أن تعيش بدون نظام أو بنظام غير صالح للتطبيق حيث طبق فعلا في هذه الفترة من الزمن، (ومن الناحية النظرية) هناك نظرية اللطف القائلة بأن (وجوده(عليه السلام)لطف وتصرفه لطف آخر وغيبته منا) كما تفصله كتب العقائد، راجع الغيبة للنعماني والغيبة للطوسي وتجريد الاعتقاد لنصير الدين، وأخيراً البرهان على وجود صاحب الزمان للسيد الأمين.
ومن الناحية العلمية باشرت المرجعية الدينية (الخاصة والعامة) في القيادة الفكرية أداء دورها العملي وحتى ظهور الحجة(عليه السلام).
المرجعية الدينية:
بما أن القيادة الفكرية أمر ضروري في حياة المسلمين ولها مواصفاتها وشروطها المشروحة في الفقه لذلك لم يخل تاريخ الشيعة في أي دور من الأدوار من مرجع ديني يؤدي مهمته الرسالية الدينية حسب الملابسات والظروف، ولهذه المرجعية دوران (الدور الأول) ويعبّر عنه (الغيبة الصغرى) من سنة 260هـ. إلى 319هـ. وكانت المرجعية لأربعة أشخاص يعبّر عنهم بـ (السفراء) والنواب كانت لهم نيابة خاصة عن الإمام(عليه السلام) وكان مركزهم بغداد وهم:
1 ـ أبو عمرو عثمان بن سعيد الأسدي العمري المتوفى 280هـ.
2 ـ أبو جعفر محمد بن عثمان بن سعيد الأسدي المتوفى 305هـ.
3 ـ أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي المتوفى 326هـ.
4 ـ أبو الحسن علي بن محمد السمري المتوفى 329هـ.
(الغيبة الثانية): ويعبّر عنها بـ (الكبرى) وابتدأت بوفاة السفير الرابع السمري 329هـ، وانتقلت القيادة الدينية إلى المرجعية في الافتاء والحكم منذ ذلك العهد حتى اليوم استناداً إلى الحديث عن الحجة(عليه السلام) (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم).
وأيضاً (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه)، وأهم الشروط المعتبرة في شخصية المرجع الديني هي الحياة والعدالة والاجتهاد ويزيد الأكثر، الأعلمية، ولا يعتبر الانتساب إلى النبي اطلاقاً، فكل من وجدت فيه الشروط عد أهلا للمرجعية، ويمكن معرفة المرجع بإحدى الطرق الثلاثة: العلم، أو شهادة عدلين، أو الشياع المفيد للعلم، وكثيراً ما تختلف وجهات النظر فيقلد كل فرد بحريته الكاملة من شاء في حدود شروط المرجعية.
ولكن سرعان ما تنصهر المرجعية في شخصية واحدة تعلو بمرور الزمن على الشخصيات الأخرى لعوامل خاصة يكون أهمها المكانة العلمية والصفات الشخصية والخدمات الاجتماعية.
وهكذا تعتبر الشيعة الإمامية طائفة إسلامية لها استقلالها الفكري في حدود التشريع الإسلامي تؤمن بالله رباً، وبمحمد(صلى الله عليه وآله) نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، وبالكعبة قبلة، والأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) أئمة وسادة وقادة، وهم مستودع السنّة النبوية تتسلسل رواياتهم في العقيدة والشريعة إلى النبي الأعظم(عليه السلام)، وهم أهل بيت النبوة و(أهل البيت أدرى بما في البيت)، وهذا ما يؤكده الإمام الصادق(عليه السلام)بقوله: (حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) وحديث رسول الله(صلى الله عليه وآله)قول الله عزّوجلّ) ـ وهذا ما يشير إليه الشاعر بقوله:
(ووال أناساً قولهم وحديثهم ***** روى جدنا عن جبرئيل عن الباري)
وهكذا نجد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) يطبّقون شريعة الله وسنّة جدهم النبي(صلى الله عليه وآله)المروية بطرقهم التي هي أقرب الطرق ومن هنا نستنتج القول أن السنّة النبوية تلازم التشيع، فكل من استن بسنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله) الصحيحة فهو متشيّع، وكل من شايع أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) فهو مستن بسنّته(صلى الله عليه وآله) وما فرق المسلمين فرقاً متناحرة سوى الأطماع والأهواء والبدع أعاذ الله من شرها(13).
الفقه الجعفري:
الفقه الجعفري يستمد ويستنبط أحكامه من القرآن والسنّة والإجماع والعقل، لذلك ينبغي أن نوضّح بعض المصطلحات التي تبين هذا الاستنباط والأحكام في الفقه الجعفري في أمور:
الأمر الأول: الأحكام الشرعية تنقسم إلى خمسة أقسام:
1 ـ الوجوب: وهو ما يجب فعله ويحرم تركه والمكلف يثاب على فعله ويعاقب على تركه كالصلاة والصوم والحج... الخ.
2 ـ الحرمة: وهو ما يحرم فعله ويعاقب على فعله كالسرقة والغيبة والتهمة والكبائر.
3 ـ المستحب أو المندوب: وهو ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه مثل الصدقة والإحسان والنوافل.
4 ـ المكروه: وهو ما لا يعاقب على فعله وتركه أفضل كزيادة النوم من دون حاجة إليه.
5 ـ المباح: وهو ما يجوز فعله وتركه وكلاهما على حدٍّ سواء عند الله تعالى.
وكل فعل يصدر من إنسان مسلم لا يخرج عن هذه الخمسة وإذا شك في احدها تسمى الشبهة الحكمية.
الأمر الثاني: هناك ثلاث طرق لمعرفة تلك الأحكام الخمسة وهي:
1 ـ الاجتهاد.
2 ـ التقليد.
3 ـ والاحتياط.
قال في شرح الأربعين ما لفظه الآتي:
إن معرفة الأحكام الشرعية ـ على الوجه الصحيح ـ إنّما يكون باجتهاد أو تقليد أو احتياط ذلك إنّ الإنسان في حياته لا بدّ له إما من اختصاص أو تلمّذ أو حذر، فلا يجوز معالجة المريض إلاّ للطبيب الأخصائي أو من يعمل بإرشاد الطبيب، وفيما إذا فُقد فاللازم الوقاية والاحتياط حتى لا يزداد المريض سوءاً كذلك بالنسبة إلى الأحكام الشرعية، فلابدّ من تحصيلها بإحدى الطّرق الآتية وبدونها يكون العمل باطلا وهي:
1 ـ الاجتهاد: وهو معرفة الأحكام الشرعية عن أدلّتها من القرآن والسُّنَّة والإجماع والعقل، وهذا لا يتيسّر إلاّ لمن اختصّ بالاستنباط.
2 ـ الاحتياط: وهو العمل بما يتيقّن سقوط التكليف الشرعي واليقين بالعمل بالواجب كتكرار الصلاة فيما إذا شكّ بين القصر والتمام وهذا أيضاً لا يتيسّر بل قد يستلزم العسر والحرج.
3 ـ التقليد: وهو تطبيق العمل على رأي المجتهد الواجد لشرائط المرجعيّة وهذا هو المتيسّر لعامة النّاس، فيجب على المشهور تقليد المجتهد الأعلم الحيّ ولا يجوز تقليد الميّت ابتداءً، وقد أباحت روايات أهل البيت(عليهم السلام) التقليد في الافتاء والقضاء منها عن الحجّة(عليه السلام) قوله: (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه)(14).
الأمر الثالث: حيث ان الاجتهاد عملية تستغرق جهداً كثيراً واضطلاعاً تاماً على كثير من العلوم الإسلامية فيجوز تقليد لمن له الكفاء ويسمى هذا (بالمرجع)، وتعني كلمة المرجع الرجوع إليه في المسائل الشرعية، والمرجع المجتهد يصدر فتواه في كتاب خاص لعمل من يُقلده يسمى (بالرسالة العملية) ليسير عليه مقلدوه في الاستنباط، وأهم الشروط المعتبرة في المرجع أن يكون على قيد الحياة، فلا يجوز تقليد الميت ابتداءً، وان يكون أعلم فلا يجوز تقليد من دونه في العلم، وأن يكون عادلا فلا يجوز تقليد الفاسق والظالم مهما بلغ من العلم.
ويعرف المجتهد باحدى الطرق الثلاث التي يعرف بها الشبهة الموضوعية، وهي العلم الشخصي، أو شهادة عدلين أو الشياع المفيد للعلم، وكل شبهة في غير الأحكام الشرعية تسمى (الشبهة الموضوعية) كالاختلاف على شيء تراه أمامك، ولا يكون من الأحكام الفقهية.
فروع الدين:
وهي الصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولي للنبي وآله والتبري من أعدائهم، وهي أمور يجب الالتزام بها ضمن شروط وحدود وضوابط ذكرت في أبواب الفقه.
ونحن هنا نفصّل بعض الشيء في اثنين منهما وهما التولي والتبري، ونوردهما معاً في موضوع واحد.
تولي أولياء الله والتبرؤ من اعدائهم:
"يجب على كل مسلم ومسلمة تولي ومحبة الله ورسله والأنبياء والأوصياء والصديقة الطاهرة سلام الله عليهم أجمعين ويجب التبري من أعدائهم.
(يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـبَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (المائدة: 57).
وقال جلّ جلاله: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) (الممتحنة: 13).
وقال تبارك وتعالى: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَ نَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِْيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة: 23).
وقال الله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة: 56).
ـ عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "ودُّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان، ألا ومن أحبَّ في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله".
ـ عن أبي جعفر(عليه السلام) في حديث له قال: "يا زياد ويحك وهل الدّين إلاّ الحبُّ؟ ألا ترى إلى قول الله: (إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران: 31) أو لاترى قول الله لمحمّد(صلى الله عليه وآله): (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاِْيمَانَ وَ زَيَّنَهُو فِى قُلُوبِكُمْ) (الحجرات: 7) وقال: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) (الحشر: 9) فقال: الدين هو الحبُّ والحبُّ هو الدِّين".
ـ عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: "من أحبّ الله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فهو ممّن كمل إيمانه".
ـ عن أبي محمّد العسكري(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لبعض أصحابه ذات يوم: "يا عبدالله أحبب في الله، وأبغض في الله، ووال في الله، وعاد في الله، فانّه لا تنال ولاية الله إلاّ بذلك، ولا يجد رجل طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصيامه حتّى يكون كذلك وقد صارت مواخاة الناس يومكم هذا اكثرها في الدنيا عليها يتوادّون وعليها يتباغضون وذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً، فقال له: وكيف لي أن أعلم أنّي قد واليت وعاديت في الله عزَّوجلَّ؟ ومن وليُّ الله عزَّوجلَّ حتّى أُواليه، ومن عدوُّه حتّى أُعاديه فأشار له رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى عليّ(عليه السلام)فقال: أترى هذا؟ فقال: بلى، قال: وليُّ هذا وليُّ الله، فواله، وعدوُّ هذا عدوُّ الله فعاده، وال وليَّ هذا ولو أنه قاتل مالك بن عطيّة".
ـ عن سعيد الأعرج، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: "إنّ من أوثق عرى الإيمان أن تحبُّ في الله، وتبغض في الله، وتعطي في الله، وتمنع في الله عزّوجلّ".
ـ عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: "إذا أردت أن تعلم أنَّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك فان كان يحبُّ أهل طاعة الله عزَّوجلَّ ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبّك وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحبُّ أهل معصيته فليس فيك خيرٌ، والله يبغضك، والمرء مع من أحبَّ"(15).
وقال عزّ من قائل: (قُل لاَّ أَسْـَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى) (الشورى: 23).
لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين أمرنا الله تعالى بمودتهم؟ قال: "علي وفاطمة وابناهما"(16).
ولما نزلت هذه الآية: (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) (البينة: 7) قال لعلي: هو أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة أنت وهم راضين مرضيين ويأتي أعداؤك غضاباً مقمحين(17).
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "من مات على حب آل محمد مات شهيداً: ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له.
ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً.
ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان.
ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير.
ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها.
ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة.
ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة.
ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنّة والجماعة.
ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله.
ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً.
ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة"(18).
وهكذا عرض الكاتب أسباب تشيعة أو تجعفره، فبالإضافة إلى نسبه الجعفري آمن بالعقيدة الجعفرية الشيعية، وكذلك آمن بالفقه وفق المذهب الجعفري، فصار جعفرياً نسباً وأصلا وعقيدة ومذهباً، والعقيدة والمذهب الجعفري هما الإسلام المحض بعينه، فهنيئاً له. (1) تهذيب التهذيب: 2 / 104. (2) الموطأ: 198، جدة 1405هـ ـ 1985م. (3) ترتيب المدارك: 30 ـ 33. كما في الإمام مالك تأليف الدكتور مصطفى الشكعة: ص123. (4) الأغاني: 4 / 39، 40 دي ساسي. كما نقله الدكتور الشكعة في ص59. (5) شرح الأربعين النبوية للسيد محمد حسين الجلالي: 19. (6) الاعتقادات للشيخ الصدوق: 76. (7) الاعتقادات للشيخ الصدوق: 43. (8) نهج البلاغة: 2 / 183. (9) يس: 78 ـ 79، شرح الأربعين النبوية: 33. (10) الاعتقادات للشيخ الصدوق: 71. (11) شرح الأربعين النبوية: 21. (12) الاعتقادات للشيخ الصدوق: 77. (13) شرح الأربعين النبوية: 36. (14) شرح الأربعين النبوية: 59. (15) بحار الأنوار: 69 / 239. (16) نور الأبصار للشبلنجي الشافعي: 112 طبع عبدالحميد أحمد حنفي بمصر ورواه الفخر الرازي في التفسير الكبير: 27 / 166، والزمخشري في الكشاف: 4 / 219 هكذا (لما نزلت ـ هذه الآية ـ قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال: علي وفاطمة وأبناهما). (17) نور الأبصار: 112. (18) نور الأبصار للشبلنجي: 114، طبع عبدالحميد أحمد حنفي، التفسير الكبير للفخر الرازي: 27 / 165، الكشاف للزمخشري: 4 / 220.