عبد المنعم الحسن
عبد المنعم الحسن
المولد والنشأة
ولد عام 1969م في قرية "مسمار" الواقعة شرق السودان، وترعرع في أسرة متواضعة، تتعبّد وفق المذهب المالكي.
كان أبوه إماماً وشيخاً للقرية وله مكانة خاصة عند سكانها، لأنّه كان من المقرّبين والمساعدين لمرشد الطريقة الختمية التي تعتبر من الطوائف الصوفية الكبرى في السودان.
توفي أبوه وهو في التاسعة من عمره، ثم انتقلت اسرته إلى منطقة "الكربة"، فأتم هناك دراسته الابتدائية، ثم انتقل إلى مدينة "بورتسودان" لظروف الدراسة والمعيشة.
دراسته الآكاديمية:
يقول الأخ عبدالمنعم: "بدأت في بورتسودان مرحلة جديدة من حياتي بين صخب المدينة واجوائها التي تختلف تماماً عن القرية، درست المتوسطة والثانوية ولم يكن لي هم في هذه الفترة سوى إنهاء الدراسة الجامعية والتخرج والانطلاق في الحياة حتى استطيع مساعدة إخوتي في إعالة الاُسرة.
مضت السنوات سراعاً وأصبحت على أعتاب التخرج من الثانوية، امتحنت للشهادة فأحرزت نتيجة تؤهلني لدخول جامعة القاهرة بالخرطوم التي أصبحت فيما بعد جامعة النيلين، واخترت كلية الحقوق، كان اهتمامي الاجتماعي يفوق اهتمامي الأكاديمي ووجدت نفسي في هذا الجانب حيث تعرفت على الكثيرين واستفدت من التجارب.
بعد ذلك أصبحت رئيساً للاتحاد العام للطلاب السودانيين بالولاية الشمالية، وكنت سعيداً بذلك لعلي أخدم الطلاب وأقدم شيئاً يكون ذخراً لي في آخرتي، خصوصاً وأن أغلب الناس باتوا يعيشون في غفلة والساعة تقترب ولا ندري متى يدركنا الموت حينها لن تنفعنا تقوى آبائنا إلاّ بمقدار ما استفدنا مما قدّموه لنا من نصح وإرشاد وتربية قويمة".
التعرف على شخصية متكاملة:
يضيف الأخ عبدالمنعم: "استقرّ بي المقام في العاصمة "الخرطوم" لأبدأ الدراسة الجامعية.. وفي أحد أحيائها حيث اخترت أن أسكن مع أقربائي كان يسكن أحد أبناء عمومتي وحيداً يكافح في الحياة بين الدراسة والعمل... كان متديناً يعيش حياة سعيدة رغم أنه لا يملك شيئاً من الوسائل المادية للسعادة وربما يختصر طعامه في اليوم بوجبة واحدة.
كنا نزوره باستمرار ـ لإعجابنا الكثير به وبخلقه وزهده ـ ونجلس معه ونحاوره في كثير من قضايا الدين والموت والآخرة، كان ينبوعاً من العلم، وحديثه معنا كان يخلق فينا روحاً إيمانية ودفعة معنوية مضاعفة وذلك لمواجهة الحياة والزهد في الدنيا... وكنا نعجب من تدينه الذي ينبع من إخلاص قلما تجده عند أحد خصوصاً في هذا الزمن الذي غلبت عليه المادية وأصبح الدين لعقاً على ألسنة الناس يحوطونه مادرّت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون...
أحسسنا ونحن نتحدث إليه أننا نقف مع أحد أولئك الذين جاهدوا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في بدر وأحد وحنين... تخرج الكلمة من قلبه فنشعر بها في أعماق وجداننا، كان كثير الصوم... دائم العبادة لله تعالى...أحياناً نبيت معه ليالي كاملة فنراه بالليل قائماً قانتاً يدعو الله ويتلو كتابه وفي الصباح يدعو الله بكلمات لم نسمع بها من قبل، كلمات يناجي بها ربنا عزّوجلّ هي بلا شك ليست لبشر عادي، لابد أنها من قول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن عجباً لم نسمع بها من قبل، ولم نقرأها ضمن مناهجنا الدراسة ولا كتبنا الإسلامية.. فنضطر إلي سؤاله ما هذا الذي تقرؤه؟! فيجيبنا بأنه دعاء الصباح لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) فنوجم مبهوتين.
أحببناه لورعه وإذا به شيعي!
كثيراً ما كان يثير الحديث عن أهمية التدين والدين والبحث عن سبل النجاة قبل أن يأتي الأجل المحتوم، وهذا الحديث كان يثير فينا إحساساً بالمسؤولية يؤرقنا فكنا نتحاشى فتح الحوار معه من الأساس، إلى أن جاء يوم ابتدأنا معه حواراً صريحاً ـ بعد أن لاحت لنا في الأفق أشياء استغربناها ـ حول هذا الدين الذي يتعبد به إلى الله تعالى، وأول معلومة ثبتت لدينا أنه جعفري إمامي إثنا عشري "شيعي"!
انفتاح باب الحوار والنقاش:
وانطلقنا معه في حوارات قوية باعتبارنا متمسكين بمذهب أهل السنة والجماعة أو لا أقل (ذلك ما عليه آباؤنا ونحن على آثارهم سائرون).
وكان النقاش يمتد لساعات طويلة وكانت حجته قوية بيّنة مدعّمة بالأدلة والبراهين العقلية والنقلية، ولم يعتمد على طول حواره معنا على كتاب أو مصدر شيعي مما يعملون به، بل كان يرشدنا إلى مصادر أهل السنة والجماعة لنجد صدق ادعائه".
عدم الاذعان بالحق:
يقول الأخ عبدالمنعم: "رغم أن حديثه وأدلته وبعض الكتب التي قرأناها كانت تحدث فينا هزة داخلية إلاّ أننا كنا نكابر ولا نظهر له من ذلك شيئاً... وعندما نجتمع بعيداً عنه كنا نأسف لحاله ونصفه بأنه مسكين".
واخيراً بنور فاطمة اهتديت:
يضيف عبدالمنعم: "صادف ـ ذات يوم ـ أن ذهبت إلى دار ابن عمي لتحيته والتحدث معه في أمور عامة، فلفت انتباهي صوت خطيب ينبعث من جهاز التسجيل قائلا: وهذه الخطبة وردت في مصادر السنة والشيعة وقد ألقتها فاطمة الزهراء لتثبيت حقها في فدك، ثم بدأ الخطيب بصوت هادئ جميل في الخطبة فتدفق شعاع كلماتها إلى أعماق وجداني، تبيّن لي أن مثل هذه الكلمات لا تخرج من شخص عادي حتى ولو كان عالماً مفوهاً درس آلاف السنين، بل هي في حدّ ذاتها معجزة، كلمات بليغة.. عبارات رصينة، حجج دامغة وتعبير قوي... تركت نفسي لها، واستمعت إليها بكل كياني عندما بلغت خطبتها الكلمات التي بدأت بها هذا الفصل ـ راجع الفصل الرابع كتابه وقد ذكر شيئاً من خطبتها(عليها السلام) ـ لم أتمالك نفسي وزاد انهمار دموعي، وتعجبت من هذه الكلمات القوية الموجهة إلى خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)! ومما زاد في حيرتي أنها من ابنة رسول الله فماذا حدث ولماذا.. وكيف.. ومع من كان الحق؟!! وقبل كل هذا هل هذا الاختلاف حدث حقيقة؟ وفي الواقع لم أكن أعلم صدق هذه الخطبة ولكن اهتزت مشاعري حينها...
كانت الخطبة كالسهم نفذت إلى أعماقي، فتحت جرحاً لا أظنه يندمل بسهولة ويسر، غالبت دموعي وحاولت منعها من الانحدار ما استطعت!
ولكنها انهمرت وكأنها تصر على أن تغسل عار التاريخ في قلبي، فكان التصميم للرحيل عبر محطات التاريخ للتعرف على مأساة الأمة، وتلك كانت هي البداية لتحديد هوية السير والانتقال عبر فضاء المعتقدات والتاريخ والميل مع الدليل...
قرّرت مع أول دمعة نزلت من آماقي الخوض في غمار البحث بجدية، وكنت لا أريد في هذا المجال أن اسمع من أحد، بل كنت أريد بداية الخيط لانطلق.
ثم انتهى الشريط، كفكفت دموعي محاولا إخفاءها حتى لا يحس بها ابن عمي، لا أدري لماذا؟ ربما اعتزازاً بالنفس، ولكن هول المفاجأه جعلني أنهمر عليه بمجموعة من الأسئلة وما أردت جواباً، إنما هي محاولة للتنفيس وكان آخر أسئلتي: إذا كان ما جاء في بعض مقاطع الخطبة صحيحاً فهل كل ذلك من أجل فدك قطعة الأرض؟!
أجابني: عليك أولا أن تعرف من هي فاطمة، ثم تبدأ البحث بنفسك حتى لا أفرض عليك قناعتي، وأول مصدر تجد فيه بداية الخيط صحيح البخاري، وناولني الكتاب فكانت المفاجأة التي لم أتوقعها".
ويقول الأخ عبدالمنعم: دام حواري مع ابن عمي سنتين تقريباً، فاقام علينا الدليل والحجة بصحة ما هو عليه، فما كان منا في النهاية إلاّ التسليم بعد البحث والتنقيب وانكشاف الحقائق.
مشاعر حالة الاستبصار:
يصف الأخ عبدالمنعم الحالة التي انتابته حين تحوله واستبصاره قائلا:
"فجأة أحسست ببرودة تلفح وجهي وبرعدة تنتاب أوصالي في يوم حار من أيام فصل الصيف الذي يتميز به السودان، ورغم درجة الحرارة العالية في ذلك اليوم إلاّ أنني شعرت بأنها تدنت إلى ما دون الصفر.
برهة مرت ثم شعرت بدفء الحقيقة... وبنور ينكشف أمامي وبهالة قدسية تلفني، وإذا بالحجب التي أثقلت كاهلي قد انزاحت، ولمع برق الحقيقة أمام نظري، وإذا بي أبدأ أول خطواتي في الاتجاه الصحيح.
كانت أصعب لحظات العمر هي وقت اكتشاف عمق المأساة التي كنا نعيشها، والتي كانت نتاجاً طبيعياً للجهل المركب الذي كان يغشى عقولنا... خصوصاً وأن هذه المأساة كانت متمركزة في اعتقادنا وديننا.
أن يجد الإنسان نفسه مخطئاً في تقدير أمور حياته اليومية مثل لون الدراسة التي يجب أن يدرسها أو الوسيلة التي يجب أن يتنقل بها.. فليس في ذلك كثير أسىً وتندم... لكن أن يخطىء الطريق إلى الله سبحانه وتعالى... أن يسلك طريقاً غير الذي وصفه الله تعالى إلى الجنة، فهذا خطير بل جنون وتهور.
ذلك ما وجدت عليه ـ وللأسف ـ السواد الأعظم من المسلمين أثناء تجربتي هذه والتي لا أدعي أنها الأولى أو الأخيرة ولا حتى المتميزة... وهذا ما توصلت إليه بعد بحثي وتنقيبي بين ثنايا تراثنا الديني وتاريخنا الاسلامي".
مؤلفاته:
(1) "بنور فاطمة اهتديت":
صدر عام 1999م ـ 1420هـ. عن دار الخليج العربي في طبعته الثانية.
يقول المؤلف في المقدمة: "هذا الكتاب ما هو إلاّ اثارة لدفائن العقول وتحفيز الآخرين للبحث عن الحقيقة التي كادت أن تضيع بين مطرقة اقتفاء آثار الآباء والاجداد وسندان سياسة التجهيل التي مارسها "العلماء" في حق الابرياء... ان هنالك الكثير ما يزال على فطرته يريد الحق ولكن يلتبس عليه الأمر فيتمسك بما اعتقده من باطل، وتصبح جزءاً من كيانه يدافع عنها بتعصب مانعاً الحقيقة ان تتسرب الى عقله.
لقد منّ الله عليَّ بالهداية بفضله وادخلني برحمته إلى حيث نور الحق وشكراً لهذه النعمة يجب عليّ أن أبلغ للناس ما توصّلت إليه.
لذلك اسطر هذه المباحث واكتب هذا الكتاب إنه شعلة حق اخذتها من فاطمة الزهراء(عليها السلام) واقدمها لكل طالب حق، ولكل باحث عن الحقيقة".
ويحتوي هذا الكتاب على عدّة مواضيع منها: ضرورة البحث في التاريخ، الشيعة والتشيع، الإمامة والخلافة، الانقلاب وكربلاء امتداد للسقيفة.
وقفة مع كتابه: "بنور فاطمة(عليها السلام) اهتديت"
فاطمة(عليها السلام) هي: الصدّيقة الشهيدة، وهي بنت الرسالة وأم أبيها الرسول الحنون، وزوج الولاية والدرع المحامي عنها، وهي أصل الإمامة وشجرتها الطيبة، حاولت الاصنام إطفاء نورها وطمس حقها، ولكن هيهات يأبى الله إلاّ أن يتم نورها الذي هو شعاع من نوره رغم كثافة الظلام، ومكر الأفواه الذي تزول منه الجبال، فكانت الزهراء التي تشع على التاريخ والأجيال جيلا بعد جيل، ولكن يلزم لمن يريد أن يتلمس طريق الفلاح ويرتقي مدارج الكمال، أن يبحث في كتب التاريخ عن هذا الشعاع الزاهر ليستضيء به وهو يسير الى الأمام، للوصول إلى مرحلة التشيع الحقيقي لأهل البيت(عليهم السلام) ليكون من الفائزين وهذا ما حاوله الكاتب في حياته العملية التي يعرض جوانب منها في هذا الكتاب، فقدم بين يدي الاهتداء بنور فاطمة(عليها السلام) بحثاً في التاريخ وبحثاً في التشيع، ثم أعشى بصره في النور الفاطمي الوهاج وتمثله في خيال البصيرة الفسيح فملأ منه ما بين الخافقين فقاده إلى أنوار ولاية علي(عليه السلام)، فبحث في الإمامة والخلافة فعرف أهل الحق وعرف أهل الباطل، ومن هناك عرف كربلاء الشهادة والبطولة التي وقفت في وجه أحفاد السقيفة واحابيلها، فاهتدى بالنور وسار في دائرته بين دعاء ووضوء وصلاة و... وأخيراً كانت خطبة فاطمة ـ كما كانت أولا ـ شعلة الحق.
البحث في التاريخ ضرورة:
يحاول البعض أن يغطّ رأسه في الرمال ويتجلبب بجلباب التقوى وعدم إثارة الفتنة فيقول: لماذا يجب أن نبحث في التاريخ، وما الفائدة التي تجتنى من ذلك؟ وهل هي إلاّ أحداث قد مضت فلماذا ننبشها من جديد وخاصة في فترة زمنية حساسة كثرت فيها الخلافات والنزاعات كفترة ما بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله).
وهكذا يبررون لانفسهم أن يخالفوا ضرورة العقل بالاعتبار بأحداث الماضي لبناء الحاضر والمستقبل، وما تسالمت عليه الأمم بالاستفادة من التجارب في بناء حضاراتها، بل يخالفون القرآن الذي نقل كثيراً من قصص الماضين وحث على التفكّر فيها وأخذ العبرة منها(1).
وقد تطرّق القرآن إلى مسألة الاختلاف بعد الرسل فقال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـت وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَـتِ وَأَيَّدْنَـهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) (البقرة: 253)، فهل كان القرآن هنا مثيراً للفتنة بذكره الخلاف بعد الأنبياء وأنّ بعضهم آمن وبعضهم كفر! وهل أنّه لم يحترم قدسية أصحاب الأنبياء فوصف بعضهم بالكفر؟
كلا بل نحن نجد العكس هو الصحيح! ففي قصة بلعم بن باعوراء الذي كان في زمن نبي الله موسى(عليه السلام) وقيل أنّه كان يعلم اسم الله الأعظم، وقد اتاه الله آياته بتعبير القرآن الكريم لكنه انسلخ منها فاغواه الشيطان وأخلد إلى الأرض فصار مثل الكلب الذي يلهث على كل حال(2)، فهل بعد هذا تقديس لأحد وإن كان صحابياً إذا ساءت عاقبته، أو قصة السامري الذي تعهده جبرئيل بالتربية في عهد فرعون الذي كان يذبح أطفال بني اسرائيل، فصار من العلماء حتى قال: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ) (طه: 96)، لكن كانت عاقبته أن يضلّ بني اسرائيل بالعجل الخوّار المصنوع من الحلي(3)، فهل بعد هذا يقال أنّ من صاحَبَ النبيّ لا يمكن أن تخدش عدالته.
لمحات من التشيع في السودان:
ولد التشيع مع ولادة الرسالة الاسلامية وانتشر في كل بلاد الاسلام، لكن السلطات الحاكمة على طول تاريخ المسلمين حاولت إطفاء جذوته وتشريد أتباعه خوفاً منها على سلطانها القائم على الجور واتباع الشهوات، فكان ان انحسر التشيع عن بعض البلاد أو تخفى في مظهر الصوفية في كثير من البلاد، ولكن لم يستطيع السلاطين أن يقتلعوا جذوره من ثقافة المسلمين، وكان وما زال حب آل البيت تخفق به كل القلوب المسلمة لربها.
وهكذا كان الأمر في السودان فنرى فرق صوفية كثيرة تلهج بذكر آل البيت، ونقرأ في التاريخ أنّ السودان كانوا من أنصار الدولة الفاطمية في مصر، وأنّ صلاح الدين قد أوقع فيهم مذبحة عظيمة لولائهم لهذه الدولة(4).
كما أنّه هناك قبائل كبيرة تنسب نفسها إلى أهل البيت(عليهم السلام) كالجعافرة والركابية والعبدلاب، ويتسمّى الكثير من أبناء السودان باسماء المعصومين من أهل البيت(عليهم السلام)، والثقافة الشعبية السودانية تفيض بمدائح أهل البيت(عليهم السلام) وتتحدّث عن فضائلهم وظلم الظالمين لهم.
وكنموذج نذكر هذه المقطوعة الشعرية للشاعر يوسف الهندي مؤسس الطريقة الهندية الصوفية في مدح أهل البيت(عليهم السلام):
سفن النجاة للملأ بشهادة النص الأتم ***** هم النهى، هم البهى، هم التقى، أهل الشيم
هم الشفاعة في غد هم السقاية في الملم ***** هم الهداية حاضرة والنور والقصد الأعم
الطاهرون من سوء أرجاس اللمم
بنور فاطمة(عليها السلام) اهتديت:
فاطمة عميدة أهل البيت(عليهم السلام) أهل البلاغة والفصاحة، المدافعون عن دين الله بالبيان الساحر، والمواجهون للظالمين بكلام المعبر الذي ينفذ الى اعماق القلوب.
بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) كانت فاطمة(عليها السلام) أول من واجهت السلطان الجائر بكلمة الحق فهزت عرشه، خرجت في لمة من حفدتها في منظر عزيز يذكّر الناس بأبيها رسول الله(صلى الله عليه وآله)فنطقت بجواهر الكلام في شجاعة يعزّ مثيلها إلاّ من أمثالها، فكان كلامها نوراً ممتداً على طول الزمان، انطلق من مسجد النبيّ(صلى الله عليه وآله) ليهدي الأجيال تلو الأجيال وحتى زماننا الحاضر، حتى يصرّح الأخ عبدالمنعم ـ وأمثاله كثيرون ـ باهتدائه بنور فاطمة(عليها السلام).
طالبت بحقها باستدلال قوي لا يدع مجالا للهروب منه أمام الخصم إلاّ أن يكذب ويخترع حديثاً ما انزل الله به من سلطان، مخالف لصريح القرآن لا يقبله إلاّ اتباع السلاطين الضالين أو المضللين، فكان موقفها فيصلا بين الحق والباطل، وهكذا هي مواقف المعصومين وخاصة وهي البضعة الطاهرة التي يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها، وفضحت بذلك الخلافة الزائفة والإمامة المغتصبة.
فدك الرمز:
ألح الرشيد الخليفة العباسي على الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام) في أخذ فدك.
قال له الإمام: ما آخذها إلاّ بحدودها.
قال الرشيد: وما حدودها؟
قال(عليه السلام): الحد الأول عدن، والحد الثاني سمرقند، والحدث الثالث افريقية، والحد الرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية.
فقال له الرشيد: فلم يبق لنا شيء فتحول في مجلسي.
فقال الإمام: قد أعلمتك أني إن حددتها لم تردَّها.
ومن هذا النص يتبين أنّ فدك هي رمز للخلافة الإسلامية، وأنّ مطالبة الزهراء(عليها السلام) بها ـ وإن كانت بحق مشروع لها ـ هو طريق للوصول الى الهدف الأكبر وهو تثبيت حق الإمام عليّ(عليه السلام) أمير المؤمنين في الولاية وفضح باطل الخليفة المغتصب لتتم الحجة على المسلمين وليحيي من حيّ عن بينة ويموت من مات عن بينة، فهذا هو دور المعصومين وإذا كانوا يطالبون بالخلافة ـ وهي حقهم المنصوص عليه ـ فانهم يطالبون بها وفق الموازين الأخلاقية ولا يجبرون الناس عليها لأن ولايتهم على الناس قائمة على المحبة والصداقة لا على الحيلة والعنف والاكراه كما فعل غيرهم ممن تسموا بخلفاء الرسول(صلى الله عليه وآله) زوراً وبهتاناً.
الخلفاء واقتحام الدار:
بعد وفاة الرسول واجتماع السقيفة الذي أفضى الى مبايعة أبي بكر، توترت الأجواء في المدينة وصار شبح التصفية يطارد أهل البيت(عليهم السلام)، وفاطمة رمز قداسة هذا البيت لا يبعد أن يصيبها وابلٌ من غضب أصحاب السقيفة، وهذا ما جرى للأسف الشديد فهم اقتحموا الدار وفيه فاطمة، وأحرقوا الباب وخلفة فاطمة، وأسقطوا المحسن الجنين في بطن فاطمة.
واعترف أبو بكر بأنّ الدار قد تمّ اقتحامها بأمره، ويعتبرها أحدث أفعاله التي تمنى لو أنه لم يقم بها، حيث يقول في مرض موته: "إني لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهن وددن أني تركتهن وثلاث تركتهن وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله، فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلقوه على حرب..."(5).
وفي قول آخر: "... وليتني لم افتش بيت فاطمة بنت رسول الله وادخله الرجال ولو كان اغلق على حرب"(6).
فهو يعترف هنا بانه لو لم "أكشف" ولم "افتش" بيت فاطمة(عليها السلام)، ولم "ادخله الرجال"، وهذه كلمات تدل على عنف ما جرى وانه حصل بالقهر لآل البيت(عليهم السلام)ما حصل.
وأما عمر "فجاء فناداهم وهم في دار علي فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده: لتخرجن أو لاحرقنها على من فيها فقيل له يا أبا حفص: إن فيها فاطمة؟ قال: وإن!!"(71).
و"استقبلتهم الزهراء(عليها السلام) من وراء الباب صارخة إلى أين يابن الخطاب؟ اجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم!!"(8).
وقال إبراهيم بن سيار بن هاني النظام المعتزلي: "إنّ عمر ضرب بطن فاطمة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح احرقوا دارها بمن فيها"(9).
وقال محمد بن أحمد بن حماد الكوفي الحافظ عن أحمد بن محمد بن السري بن يحيى: حضرته ورجل يقرأ عليه: "إنّ عمر رفس فاطمة حتى اسقطت بمحسن"(10).
وهكذا إذن توجوا أعمالهم الاجرامية بقتل المحسن فقطعوا نسل السادة المحسنية ناهيك عما جرى على فاطمة نفسها مما أدّى الى وفاتها فيما بعد وهي في عمر الزهور.
استشهاد الزهراء(عليها السلام):
بقيت الزهراء حزينة منكسرة في بيتها تبكي وتشكو همها إلى الله عزّوجلّ وتنتظر يومها الموعود، فقد اخبرها المصطفى بأنها أول أهل بيته لحوقاً به، فظلت تبكي وتبكي إلى أن جاء "شيوخ" أهل المدينة يظهرون لعليّ(عليه السلام) انزعاجهم وتأذيهم من بكاء فاطمة، فبنى لها أمير المؤمنين علي(عليه السلام) بيتاً خارج المدينة سمي "بيت الأحزان" وهناك واصلت مأساتها.
ويوماً فيوماً راحت تذبل تلك الزهرة اليانعة، وأخذ المرض منها مأخذاً، يقول الإمام الصادق(عليه السلام): (فأسقطت محسناً ومرضت من ذلك مرضاً شديداً وكان ذلك هو السبب في وفاتها).. كيف لا يكون كذلك وهي ابنة ثمانية عشر عاماً.
وجاء في وصيتها للإمام عليّ(عليه السلام): ".. وصلِّ عليَّ وليصلِّ معك الادنى فالادنى من أهل بيتي وادفني ليلا لا نهاراً إذا هدأت العيون ونامت الأبصار، وسراً لا جهاراً وعَفِّ موضع قبري ولا تشهد جنازتي أحداً ممن ظلمني).
وهكذا واصلت الزهراء(عليها السلام) الجهاد بعد الموت، فكانت وصيتها الاعلان الأخير لموقفها الصامد والذي استمر من وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) وحتى أيام مرضها، وارادت له أن يبقى الى ما شاء الله... صرخة مدوية عبر التاريخ فالى الآن لا يعلم أين قبر فاطمة بالضبط فيأتي التساؤل تلو التساؤل لماذا؟ كيف؟ وماذا حدث؟ و... و...
واُسدل الستار عن أول محطة سقطت فيها الأمة في امتحانها، وغادرت الزهراء(عليها السلام) مشتاقة للقاء أبيها، ذهبت وهي تحمل جراحات مثخنة وآلاماً عظاماً.. وتركت لنا أعلام هداية ومنارات فرقان..
ويقول الأخ عبدالمنعم هنا: "ورغم أنني تجرعت كأس ألمها إلاّ أنّه بالنسبة لي كان ممزوجاً بالحلاوة شربت منه فاشرقت لي فاطمة بنورها فكانت الدليل إلى الصرط المستقيم. وما أعظم شأنها. حقاً أنّها فاطمة بنت محمد زوج عليّ".
الخلافة بالشورى أم بالتعيين:
اتى علماء أهل السنة بنظرية الشورى لتبرير الواقع التاريخي الذي جرى بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإلاّ فان الشيخين لم يحتجّا بالشورى في السقيفة، وعيّن أبو بكر عمر خليفة، وهي غير واضحة المعالم عندهم، فهل تكفي بيعة شخص واحد أم أنها لا تنعقد إلاّ بأهل الحل والعقد؟ وهؤلاء من هم ومن الذي يعينهم؟
واستدلوا بآيتين ذكرت الشورى وهي اجنبية عن المقام ولا يمكن تثبيت الشورى المزعومة بهما.
الأولى: (وَشَاوِرْهُمْ فِى الاَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران: 159)، التي تشير إلى أن هناك حاكماً قد استقرت حكومته وتوجهه لمشاورة الرعية والأخذ بالنافع بعد تحميص الآراء والأفكار ثم يعزم هو على ما ارتآه بعد المشاورة متوكّلا على الله، وتبيّن أن بدون الحاكم لا وجود للشورى لأنّها تحتاج إليه ليكون قيماً عليها، وعليه فهي تدلّ على أصل الشورى في مسألة الخلافة.
الثانية: (وَ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، التي تشير إلى أنّ: من صفات المؤمنين التشاور في أمورهم التي تخصّهم، أما كون تعيين الإمام داخلا في أمورهم فهو أول الكلام، ولا تدل الآية عليه وهي عامة ولابدّ من الرجوع إلى الآية السابقة لتحديد تفصيلات الشورى، فالآية الثانية تتحدّث عن صفات المؤمنين والرسول أحدهم بل أكملهم واتقاهم وهو ولي الأمر المستقر له الوضع، وبعد وفاة الرسول إذا كان هناك ولي أمر فلا داعي للشورى لتنصيبه، وإذا لم يكن فالشورى تحتاج الى ولي أمر لكي تكون شرعية وبدونه لا تكون الشورى شرعية ولا تلزم أحد من المسلمين.
وأما التعيين فتدل عليه ضرورة العقل والوجدان، فهل من المعقول أن يترك الرسول أمر الخلافة ويدع الاُمة بدون راع تركن إليه وهو الذي وضح كل شيء حتى أحكام التخلي.
إضافة إلى آيات كثيرة كآيات الاصطفاء التي تدل على التعيين الالهي، والروايات المتواترة التي تدل على ولاية عليّ بن أبي طالب وخلافته كرواية الغدير وحديث الثقلين وحديث المنزلة وحديث الدار و...
ثم إنّ التعيين أمر تنبه له أبو بكر عندما نصب عمر ـ في كتاب وصيته ـ خليفة من بعده وأمر الناس بالسمع والطاعة له، وقد نفذ عمر هذه الوصية بحرص زائد في حين أنه كان المعترض الأول على الرسول(صلى الله عليه وآله) عندما أراد كتابة وصيته وهو مريض وقال (انه يهجر).
كربلاء ثمرة للسقيفة:
ما جرى في كربلاء من أحداث مفجعة واعتداء على الحسين(عليه السلام) وآل الرسول(عليهم السلام) من قبل آل اُميه، ما كان ليحدث لولا ان أساس الظلم قد بدأ في السقيفة وما جرى بعدها من اعتداء على بيت فاطمة(عليها السلام).
فالحاكم الأموي يزيد امتدادٌ لأبيه الذي اكتسب شرعيته وملكه من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي اشتهر بقساوته ومساءلته للولاة فيما عدا معاوية (كسرى العرب) كما يقول عنه عمر لما عرف به من حبه للبذخ والترف واهتمامه بالمظاهر، وهكذا كان معاوية في وضع مريح جعله يمتلك امبراطورية مسلحة بالشام ادخرت لنصرة الباطل فظهرت في صفين ضد عليّ بن أبي طالب وفي النهاية اصبحت مقراً لحكم بني أمية.
من ركام الباطل إلى النور:
أهل البيت(عليهم السلام) هم أحد الثقلين وكلماتهم نور كما هي كلمات القرآن فهم معصومون ولا ينطقون عن الهوى، تجد عندهم ما لا تجده عند غيرهم، ومنهجهم في تربية الأمة وتوجييها يجعلك تحس بمعنى خلافة الله في الأرض، ولم يشهد التاريخ بانهم تعلموا على يدي أحد بل الكل يرجع إليهم ويغرف من معينهم.
ولا يمكننا استعراض بحار علومهم التي أخذ منها شيعتهم فكان تفوقهم على من سواهم في جميع المجالات، وموسوعة واحدة من مصادرهم الحديثية تكفي لتلتهم كل ما عند أهل السنة والجماعة، وبحار الأنوار بمجلداته العشرة بعد المائة دلتنا على ذلك وحقاً إنه بحار من أنوار العلم.
ولأهل البيت(عليهم السلام) تراث عظيم لم تستفد منه كل قطاعات الأمة، وإحدى معاجزهم التي بهرت الكاتب هو ذلك المنهج في الدعاء وكيفية التقرب إلى الله تعالى والأدب الرفيع في مخاطبة الرب سبحانه، فذكر الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين كمثال على محرومية أهل السنة من كنوز أهل البيت(عليهم السلام).
وفي ظل أمواج الفتن ما احوج الانسان إلى أن يجد سفينة النجاة لتأخذ به الى بر الأمان، وما احوجه الى التعرف على المعتقد السليم الذي من خلاله يستطيع أن يعيش واقع حياته اليومية باطمئنان حتى يلقى الله وقد وفى بعهده وميثاقه (1) الاعراف: 176، يوسف: 111. (2) انظر الاعراف: 175 ـ 176. (3) انظر طه: 87 ـ 97. (4) أنظر: الدولة الفاطمية في مصر: 135، للدكتور محمد جمال الدين سرور. (5) تاريخ الطبري: 2 / 619. (6) تاريخ اليعقوبي: 2 / 115. (7) الامامة والسياسة: 1 / 12. (8) تاريخ أبي الفداء: 1 / 164. (9) الملل والنحل للشهرستاني: 1 / 57. (10) لسان الميزان لابن حجر العسقلاني: 1 / 268.