دولة الأدارسة

من ويكي علوي
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

دَولَة الأدَارسَة

كان من ظلم العباسيين، ومطاردتهم لأبناء علي أمير المؤمنين أن خرج بالمدينة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب، وكان معه جماعة من أهل بيته، منهم إدريس، ويحيى، وسليمان بنو عبد اللّه بن الحسن، فاشتد أمر الحسين في بدء الأمر، وطرد من المدينة عامل الهادي العباسي حفيد المنصور، وبايع الناس الحسين على كتاب اللّه وسنة نبيه، وأقام وأصحابه بالمدينة أياماً يتجهزون، ثم خرجوا إلى مكة للحج، فقابله هناك جيش الحاكم العباسي يوم التروية الثامن من ذي الحجة، فقتل الحسين وجماعة من أهل بيته وأصحابه، وجمعت رؤوسهم فكانت مائة ونيفاً، وكان بينها رأس سليمان بن عبد اللّه بن الحسن المثنى، وكان مقتلهم بموضع يقال له فخ على ثلاثة أميال من مكة سنة 169 هجري، وإلى ذلك يشير دعبل في تائيته الذائعة النائحة، كما قال عبد الرحمن الشرقاوي :

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي*** نجوم سماوات بأرض فلاة قبور بكوفان وأخرى بطيبة*** وأخرى بفخ نالها صلوات

يحيى

أما يحيى فإنه فر من الوقعة المذكورة إلى بلاد الديلم1، ودعا الناس إلى بيعته فبايعوه، واشتد أمره، وقويت شوكته، فجهز له الرشيد جيشاً ضخماً بقيادة الفضل بن يحيى البرمكي، فكاتبه الفضل، وبذل له الأمان، وكل ما يختار فآثر حقن الدماء، وأجاب الفضل بعد أن أخذ اليمين المغلظة من الرشيد بخطه، وأشهد العلماء والأكابر، وحضر يحيى إلى بغداد، فأكرمه الرشيد، وأعطاه مالاً كثيراً، ثم غدر به.

إدريس

وأما إدريس بن عبد اللّه بن الحسن فإنه فر من وقعة فخ إلى مصر، وكان على بريدها يومئذ رجل يتشيع لآل البيت، اسمه واضح، فعلم بإدريس، فأتاه إلى الموضع الذي كان مستخفياً فيه، وعرض عليه خدماته، ولم ير شيئاً أخلص له من أن يحمله على البريد إلى المغرب، ففعل، ولحق إدريس بالمغرب الأقصى2 فنزل بمدينة تدعى «وليلة»، وكان فيها عامل للعباسيين اسمه إسحاق بن محمد بن عبد الحميد، فأجار إدريس وأكرمه وخلع طاعة العباسيين، وانتهى الخبر إلى الرشيد بما فعله واضح في شأن إدريس، فقتله وصلبه.

واجتمعت عليه القبائل من كل وجه ومكان، وكان أول من بايعه قبيلة أوربة، وهي يومئذ من أعظم قبائل البربر بالمغرب الأقصى، وأكثرها عدداً، ثم تلتها سائر القبائل، فبايعوه ودخلوا في طاعته، وعظموه وقدموه على أنفسهم، فاستتب أمره، وتمكن سلطانه.

الغزو

ولما تم له الأمر اتخذ جيشاً كثيفاً من وجوه البربر الأشداء، وخرج غازياً بلاد تامسنا، وبلاد تادلا، ففتح المعاقل والحصون، وكان أكثر أهل هذه البلاد على دين اليهودية والنصرانية، فأسلم جميعهم على يده.

ثم رجع إلى عاصمته «وليلة» واستراح برهة، ثم استأنف الغزو على من بقي من قبائل البربر على غير دين الإسلام، وكانوا متحصنين في المعاقل والجبال المنيعة، فلم يزل يجاهدهم، ويستنزلهم من معاقلهم، حتى دخلوا في الإسلام.

وقفل راجعاً إلى مقره ريثما استراح جيشه، ثم كرّ غازياً على تلمسان، فخرج إليه صاحبها مستأمناً ومبايعاً، فأمنه إدريس، وقبل بيعته، ودخل المدينة، وبنى فيها مسجداً متقناً، وأمر بعمل منبر نصبه فيه، وكتب عليه : «بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به الإمام إدريس بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب، وذلك في صفر سنة 194» قال ابن خلدون : «واسم إدريس مخطوط في صفحة المنبر لهذا العهد».

وبلغت أخبار إدريس هارون الرشيد ببغداد، فخاف عاقبة ذلك، وأيقن أنه إذا لم يتدارك أمره الآن عجز عنه في المستقبل، وغزاه في عقر داره مع ما يعلم من فضل إدريس، ومحبة الناس لأهل البيت عموماً فدس إليه رجلاً يعرف باسم الشماخ، وزوده بالمال والسم، وأوصاه أن يتظاهر بالتشيع للعلويين، ويتقرب إلى إدريس بشتى الطرق، ثم يغتاله بالسم، ورحل الشماخ إلى إدريس مظهراً الهرب إليه فيمن هرب من جور الرشيد، فعطف عليه إدريس ورحمه، وكان الشماخ ممتلئاً من الأدب والظرف والبلاغة، فأنس به إدريس واطمأن إليه، وشكا إدريس ذات يوم من علة في أسنانه، فأعطاه الشماخ دواء مسموماً، ثم اختفى، فسقطت أسنان إدريس، ومات سنة 177 رحمة اللّه عليه، وقيل سنة 175. وكان فاضلاً في ذاته مالكاً لشهواته، مؤثراً العدل، مقبلاً على أعمال البر3.

إدريس الثاني

مات إدريس، ولم يترك ولداً إلا حملاً من جارية بربرية، اسمها كنزة، وكان له مولى يدعى راشداً، وكان كاسمه عاقلاً أميناً، وشجاعاً كريماً، فجمع راشد رؤساء البربر، ووجوه الناس، وقال لهم : إن رأيتم أن تصبروا، حتى تضع هذه الجارية حملها، فإن كان ذكراً أحسنا تربيته، حتى يبلغ مبلغ الرجال، وبايعناه تمسكاً بدعوة آل البيت، وتبركاً بذرية الرسول، وإن كان انثى نظرتم لأنفسكم.

فقالوا له : ما لنا رأي إلا ما رأيت، وأنت عندنا عوض عن إدريس، حتى تلد الجارية حملها، ويكون ما أشرت، على أنها إن وضعت جارية كنت أحق الناس بهذا الأمر، لفضلك وعلملك ودينك.

وولدت الجارية ذكراً، فسماه راشد إدريس، وقام بأمره أحسن قيام، فأقرأه القرآن، حتى حفظه، وهو ابن ثماني سنوات، ثم علمه الحديث والسنة والفقه والعربية، ورواه الشعر وأمثال العرب، وعرفه أيام الناس والملوك، ودربه على ركوب الخيل والرمي بالسهام، ولم يمض له من العمر 11 سنة إلا وقد اضطلع بما حمل، وترشح للأمر، وبايعه البربر عن طاعة منهم وإخلاص.

ولما استقام أمر المغرب لإدريس الثاني وفدت عليه الوفود من سائر البلدان، وتسامع به العرب، فأقبلوا إلى حضرته من إفريقيا والأندلس ملتفين حوله، حتى اجتمع لديه منهم 500 فارس من قيس والأزد ومذحج وغيرهم، فأكرم وفادتهم، وأجزل صلتهم، وأدنى منزلتهم، وأسند إليهم الكثير من مناصب الدولة.

مدينة فاس

لما كثرت الوفود على إدريس الثاني من العرب وغيرهم، وضاقت بهم مدينة «وليلة» بنى مدينة فاس، وأنشأ فيها المدارس والجوامع والأسواق، وأمر الناس بالبناء، وقال : من بنى موضعاً أو غرسه فهو له، فبنى الناس كثيراً، وغرسوا كثيراً، ووفد عليه جماعة من الفرس، فأكرمهم وأنزلهم بغيضة هناك بنوا فيها واستوطنوا.

ولما فرغ من بناء المدينة ذهب في الجمعة الأولى إلى الجامع، وصعد المنبر يخطب الناس، ورفع يديه في آخر الخطبة، وقال : «اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة، ولا رياء، ولا سمعة، ولا مكابرة، وإنما أردت أن تعبد بها، ويتلى بها كتابك، وتقام بها حدودك، وشرائع دينك، وسنة نبيك ما بقيت الدنيا. اللهم وفق سكانها للخير، وأعنهم عليه، واكفهم مؤونة أعدائهم، وأدرر عليهم الأرزاق، واغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق. إنك على كل شيء قدير».

فأمن الناس على دعائه، فكثرت الخيرات بالمدينة، وظهرت البركات.

ومن محاسن فاس أنها كثيرة الأشجار، يشقها نهر نصفين، وتتشعب منه جداول تجري في الدور والحمامات والشوارع والأسواق، وفي أكثر بيوتها تتفجر العيون، وتنبع الينابيع بداخلها، واتخذت فاس عاصمة الملك، وكان ابتداء بنائها سنة 193.

الغزو

لما فرغ إدريس من بناء مدينة فاس، واتخذها دار ملكه اتجه إلى الغزو، فذهب إلى بلاد المصامدة واستولى عليها، وأبدى إدريس من البسالة والمهارة ما حير الألباب، قال بعض من شهد معه الغزاوات، حاربنا الخوارج الصفرية من البربر، وكانوا ثلاثة أضعافنا، فلما تقارب الجمعان نزل إدريس، فتوضأ، وصلى ركعتين، ودعا اللّه، ثم تقدم للقتال. فأعجبني ما رأيت من ثباته، وقوة جأشه، فالتفت نحوي، وقال : مالي أراك تديم النظر إليّ ؟ قال : أعجبني ما أراه من قلبك، وطلاقة وجهك عند اللقاء. قال إدريس : ذاك ببركة جدنا رسول اللّه، ووراثة من أبينا علي بن أبي طالب.

ومات إدريس الثاني سنة 213 وعمره نحو 36 سنة، وترك 12 ذكراً، وهم : محمد، وعبد اللّه، وعيسى، وإدريس، وأحمد، وجعفر، ويحيى، والقاسم، وعمر، وعلي، وداود، وحمزة4.

محمد بن إدريس : واعتلى كرسي الخلافة بعد إدريس الثاني ابنه محمد، وقسم بلاد المغرب بين إخوته، حيث أسند إلى كل واحد من الكبار إمارة من إمارات البلاد، وأبقى الصغار في كفالته، فنجحت سياسته هذه نجاحاً باهراً، إذ ظل جميع إخوانه موالين له إلى النهاية ما عدا عيسى والقاسم اللذين تغلب عليهما محمد، وعزلهما عن الإمارة. وتوفي محمد سنة 221 بعد أن عهد بالأمر لابنه علي.

علي بن محمد

وسار علي بسيرة أبيه وجده في العدل، وظهرت عليه دلائل الذكاء والفضل، وحسنت في أيامه حال الرعية، وكانوا في أمن ودعة إلى أن توفي سنة 234، وعهد بالأمر لأخيه يحيى بن محمد.

يحيى بن محمد

وامتد سلطان يحيى بن محمد، وعظمت دولته، وحسنت آثاره، واستبحر عمران فاس، وبنيت فيها الحمامات والفنادق، ودخل إليها الناس من الثغور القاصية وبُني في عهده مسجد القرويين المعروف اليوم بجامعة القرويين، وهي جامعة دينية إسلامية تضم المئات من الطلاب، كجامعة النجف في العراق، والأزهر في مصر، وجامع الزيتونة في تونس، وتوفي يحيى بن محمد سنة 264، وخلفه ابنه المسمى باسمه.

يحيى بن يحيى

وأساء يحيى السيرة، وكثر عبثه ولهوه، فتغير عليه أهل فاس، ففر إلى الأندلس، حيث لاقى حتفه.

ولما عزل استولى على الحكم ابن عمه علي بن عمر الذي لم تطل أيامه، إذ اضطرته ثورة الخوارج إلى الفرار.

فبايع الناس يحيى حفيد إدريس الثاني، فنجح إلى حين في نشر سلطانه، وفي سنة 305 زحف مصالة قائد عبيد اللّه المهدي الخليفة الفاطمي الأول، زحف إلى فاس وحاصرها، فصالحه يحيى على مال يؤديه إليه، وعلى البيعة لعبد اللّه المهدي، وخرج الملك من يده (الاستقصا ج 1).

وقال السيد مير علي في «مختصر تاريخ العرب» : إن سلطان الأدارسة توزع بين الفاطميين والأمويين بالأندلس، فالقسم الشرقي من مراكش سقط في أيدي الفاطميين، والغربي في أيدي الأمويين.

وللأدارسة في المغرب أعمال جليلة، فبهم انتشر الإسلام هناك، حتى بلغ أقاصي البلاد، وازدهرت العلوم والحضارة، وتحضر أهل البوادي والجبال، فلقد أنشأوا المدن الواسعة، وبنوا المساجد، وأقاموا الجامعات والكليات، وعم في عهدهم العدل والأمن والرخاء، قال المستشرق «سيديو» في كتاب «تاريخ العرب العام» ص 278 طبعة 1948 : «ظل الأدارسة قابضين على ما ملكوه من سنة 803 إلى سنة 949 م مقيمين في البلاد التي هي مدينة لهم بجليل الأعمال، فأسسوا مدينة فاس التي أضحى مسجدها مقدساً لدى جميع الأهالي المجاورين، ونال شهرة عظيمة في زمن قليل، واشتملت مدينة فاس على مدارس ومكتبات تساوقت هي والحركة العلمية التي حمل لواءها بنو العباس في المشرق، وغدت مستودعاً تجارياً واسعاً بين عرب إسبانيا وعرب إفريقيا».

  • الجزء الأول من كتاب «البيان المُغرب في أخبار المَغرب» لابن عذاري المراكشي، والجزء الأول من «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» لأبي العباس الناصري، وكتاب «مختصر تاريخ العرب» للسيد مير علي.

1- تقع بلاد الديلم على شواطئ بحر قزوين، وتشمل كوكان ومازندران، وطرفاً من رشت. 2- المغرب الأقصى مراكش، والمغرب الأوسط الجزائر، أما تونس فتعد من إفريقيا. 3- هذه الجملة وردت بالحرف في كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، وقال جرجي زيدان في الجزء الرابع من تاريخ التمدن الإسلامي : وتلقى الشيعة في المغرب إدريس وبايعوه. يدل هذا على أن التشيع كان في المغرب منذ وصول الإسلام إليه. 4- كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» ومن طريف ما حدث لي مع هذا الكتاب أني بقيت أياماً أبحث في المكتبات وسراديبها عن مصادر لهذا الفصل، وتمنيت لو أجد كتاباً خاصاً بدول المغرب، وكدت أيأس، مع أن عيني كانت تقع في كل يوم على هذا الكتاب الفريد في بابه. ولكني لم أعبأ به، لأنه كتب عليه لفظ «الاستقصاء» بالخط الطويل العريض، وأخبار دول المغرب بالحرف الصغير، وأنا لا أقرأ كل ما على الغلاف، وإنما أكتفي بالاسم الأول، فظننته أجنبياً عن موضوعي، إلى أن رأيت بعض الكتب ينقل عنه، فأسرعت إلى شرائه، وحين قرأته وجدت فيه ضالتي، وللّه الحمد، وآمنت بأن الاسم الأول، والأكبر للكتاب يجب أن يعبر عما فيه.