الحر بن يزيد الرياحي

من ويكي علوي
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الحُرّ بن يزيد الرياحي الكوفي (سنّي / العراق)

«الحرّ» بن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع ابن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي اليربوعي الرياحي. هكذا ذكر نسبه في إبصار العين، وفي رجال الشيخ: الحرّ بن يزيد بن ناجية بن سعد من بني رياح بن يربوع.

استشهد الحرّ مع الحسين (عليه السلام) بكربلاء سنة٦١هـ .

ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الحسين(عليه السلام)، كان الحرّ من رؤساء أهل الكوفة. أرسله ابن زياد من القادسية أميراً على ألف فارس يستقبل بهم الحسين لئلاّ يدخل الكوفة. وجعله ابن سعد يوم عاشوراء على ربع تميم وهمدان، وقال يوسف قزاوغلي المعروف بسبط بن الجوزي في تذكرة الخواص: كان الحرّ بن يزيد اليربوعي من سادات أهل الكوفة. وفي إبصار العين: كان الحرّ شريفاً في قومه جاهلية وإسلاماً، فإنّ جدّه عتاباً كان رديف النعمان، وقد ولد عتاب قيساً وقعنباً ومات، فردف قيس للنعمان ونازعه الشيبانيون. فقامت بسبب ذلك حرب يوم الطخفة، والحرّ هو ابن عمّ الصحابي الشاعر، وهو زيد بن عمرو بن قيس بن عتاب.

وقال صاحب الإصابة: زيد بن عمرو بن قيس بن عتاب بن هرمي بن رياح ابن يربوع التميمي اليربوعي، ولم يذكر أنّه يسمّى الاحوص ولم يذكره في الاستيعاب وأُسد الغابة.

خبره يوم كربلاء إلى حين شهادته:

ليس لدينا شيء من أخبار الحرّ -رغم كونه من الرؤساء- سوى أخباره يوم كربلاء، ويفهم من كلام المؤرّخين أنّ الحر كان مع الحصين بن تميم بالقادسيّة، أخرجه ابن زياد معه من الكوفة. وقد كان ابن زياد بعث الحصين بن تميم صاحب شرطته وأمره أن ينزل القادسية ويقدم الحرّ بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم الحسين.

قال ابن الأثير: كان مجي الحر من القادسية، أرسله الحصين بن تميم في ألف يستقبل بهم الحسين.

وانفرد ابن عساكر بقوله: أنّه لم يبلغ الحسين قتل مسلم حتّى كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال فلقيه الحرّ بن يزيد التميمي فقال له: ارجع فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً، وأخبره الخبر فهمّ أن يرجع وكان معه إخوة مسلم فقالوا: والله لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نقتل، فساروا.

وهذا اشتباه فإنّ الحرّ جاء ليمنع الحسين من دخول الكوفة، وقد منعه من الرجوع، ولم يذكر أحد أنّه أشار عليه بالرجوع، والحسين بلغه قتل مسلم قبل ذلك. روى أبو مخنف عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديّين.

وروى نحوه ابن طاووس في كتاب الملهوف قالا: كنّا نساير الحسين، فنزل الحسين شراف، فلمّا كان السحر أمر فتيانه باستقاء الماء والإكثار منه ففعلوا، ثُمّ ساروا صباحاً فرسموا صدر يومهم حتّى انتصف النهار فكبّر رجل منهم.

فقال الحسين: «الله أكبر لم كبّرت»؟

قال: رأيت النخل.

قالا: فقلنا: إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قط.

قال: «فما تريانه رأى»؟

قلنا: رأى هوادي الخيل، وفي الملهوف: «فما ترونه»؟

قالوا: نراه والله أسنّة الرماح وآذان الخيل!

قال: وأنا والله أرى ذلك.

ثُمّ قال الحسين: «أمّا لنا ملجأ نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد»؟

قالوا: بلى! هذا ذو حسم -وهو اسم موضع- عن يسارك تميل إليه فإن سبقت القوم فهو كما تريد، فأخذ ذات اليسار، فما كان بأسرع من أن طلعت هوادي الخيل، فتبيّناها فعدلنا عنهم، فلمّا رأونا عدلنا عدلوا معنا كأنّ أسنّتهم اليعاسيب وكأنّ راياتهم أجنحة الطير، فاستبقنا إلى ذي حسم، وأمر الحسين بأبنيته فضربت.

وجاء القوم زهاء ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي حتّى وقف هو وخيله في حَرّ الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمون متقلّدو أسيافهم، فقال الحسين لفتيانه: «اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفاً»، فأقبلوا يملأون القصاع والطساس من الماء، ثُمّ يدنونها من الفرس فإذا عب فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقوا آخر حتّى سقوها عن آخرها. وكانت ملاقاة الحرّ للحسين على مرحلتين من الكوفة. ولمّا التقى الحرّ مع الحسين(عليه السلام).

قال له الحسين(عليه السلام): «ألنا أم علينا»؟

فقال: بل عليك يا أبا عبد الله!

فقال الحسين: «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم».

فلم يزل الحرّ موافقاً للحسين(عليه السلام) حتّى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي وكان معه أن يؤذّن، فأذّن فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسين(عليه السلام) في إزار ورداء ونعلين، فخطبهم وقال من جملة خطبته «إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم أن أقدم علينا لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، وإن كنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه»، فسكتوا، فقال للمؤذّن: «أقم» فأقام الصلاة.

فقال للحرّ: أتريد أن تصلي بأصحابك؟

قال: لا بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك، فصلّي بهم الحسين(عليه السلام)، ثُمّ دخل مضربه واجتمع إليه أصحابه، ودخل الحرّ خيمة نصبت له واجتمع عليه جماعة من أصحابه، وعاد الباقون إلى صفّهم الذي كانوا فيه فأعادوه، ثُمّ أخذ كلّ رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلّها، فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين(عليه السلام) أن يتهيّاؤا للرحيل ففعلوا، ثُمّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام فاستقدم الحسين(عليه السلام) وقام فصلّى، ثُمّ سلّم وانصرف إليهم بوجهه وخطبهم وقال في جملة كلامه:

«ونحن أهل بيت محمّد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أبيتم إلاّ الكراهيّة لنا، والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم ; انصرفت عنكم».

فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر.

فقال الحسين(عليه السلام) لبعض أصحابه: «يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ»، فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه.

فقال له الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتّى نقدمك الكوفة على عبيد الله.

فقال له الحسين(عليه السلام): «الموت أدنى إليك من ذلك»، ثُمّ قال لأصحابه: «قوموا فاركبوا» فركبوا وانتظر هو حتّى ركبت نساؤه، فقال لأصحابه: «انصرفوا» فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف.

فقال الحسين(عليه السلام) للحرّ: «ثكلتك أُمّك ما تريد»؟

فقال له الحرّ: أمّا لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل هذه الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أُمّه بالثكل كائناً من كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أُمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه.

فقال له الحسين(عليه السلام): «فما تريد»؟

قال: أُريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد الله بن زياد.

فقال: «إذن والله لا أتّبعك».

فقال إذن والله لا أدعك.

فترادّا القول ثلاث مرّات، فلمّا كثر الكلام بينهما قال له الحرّ: إنّي لم أؤمر بقتالك إنّما أمرت أن لا أفارقك حتّى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة، يكون بيني وبينك نصفاً حتّى أكتب إلى ابن زياد وتكتب إلى يزيد أن شئت أو إلى ابن زياد إن شئت، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتليّ بشي من أمرك، فخذها هنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، فتياسر الحسين(عليه السلام) وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلاً وسار والحرّ يسايره.

فقال له الحرّ: إنّي أذكرك الله في نفسك فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، ولئن قوتلت لتهلكنّ فيما أرى.

فقال له الحسين(عليه السلام): «أفبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ ما أقول لك! ولكنّي أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه حين لقيه وهو يريد نصرة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فخوّفه ابن عمّه وقال: اين تذهب فإنّك مقتول؟ فقال:

سامضي وما بالموت عار على الفتى إذا نوى حقّاً وجاهد مسلماً
(وآسى) وواسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً وودّع مجرماً
أقدّم نفسي لا أُريد بقاءها لتلقى خميساً في الوغى وعرمرما
فإن عشت لم أندم وإن مت لم أُلم كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما

فلمّا سمع ذلك الحرّ تنحّى عنه وجعل يسير ناحية عن الحسين(عليه السلام) حتّى انتهوا إلى عذيب الهجانات، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة لنصرة الحسين ومعهم دليلهم الطرماح، فأتوا إلى الحسين وسلّموا عليه.

فأقبل الحرّ وقال: إنّ هؤلاء النفر الذين جاؤوا من أهل الكوفة ليسوا ممّن أقبل معك، وأنا حابسهم أو رادّهم.

فقال الحسين(عليه السلام): «لأمنعهم ممّا أمنع منه نفسي! إنّما هؤلاء أنصاري وأعواني، وقد كنت أعطيتني أن لا تعرض لي بشيء حتّى يأتيك جواب عبيد الله».

فقال: أجل لكن لم يأتوا معك.

قال: «هم أصحابي وهم بمنزلة من جاء معي فإن بقيت على ما كان بيني وبينك وإلاّ ناجزتك».

فكفّ عنهم الحرّ. ولم يزل الحسين(عليه السلام) سائراً حتّى انتهى إلى قصر بني مقاتل، ثمّ ارتحل من قصر بني مقاتل، فأخذ يتياسر بأصحابه فيأتيه الحرّ فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة ردّاً شديداً امتنعوا عليه وارتفعوا، فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتّى انتهوا إلى نينوى، فإذا راكب على نجيب له عليه السلاح متنكب قوساً مقبل من الكوفة، فوقفوا ينتظرونه جميعاً، فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ وأصحابه، ولم يسلّم على الحسين(عليه السلام) وأصحابه، فإذا هو مالك بن النسر الكندي، فدفع إلى الحرّ كتاباً من عبيد الله فإذا فيه:

أمّا بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزلنّه إلاّ بالعراء في غير حصنّ وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام. فلمّا قرأ الكتاب جاء به إلى الحسين(عليه السلام) ومعه الرسول فقال: هذا كتاب الأمير يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه، وهذا رسوله قد أمره أن لا يفارقني حتّى أنفّذ رأيه وأمره وأخذهم بالنزول في ذلك المكان.

فقال له الحسين(عليه السلام): «دعنّا ويحك ننزل في هذه القرية أو هذه -يعني نينوى- ، والغاضرية أو هذه -يعني شقية- .

قال: لا والله لا أستطيع ذلك، هذا رجل قد بعث عليّ عيناً.

ثُمّ إنّ الحسين(عليه السلام)قام وركب وكلّما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه تارة أُخرى حتّى بلغ كربلاء.

قال أبو مخنف: لمّا اجتمعت الجيوش بكربلاء لقتال الحسين(عليه السلام)، جعل ابن سعد على كلّ ربع من الأرباع أميراً، فكان على تميم وهمدان الحرّ بن يزيد، فشهد هؤلاء الأمراء الذين جعلهم كلّهم قتال الحسين(عليه السلام) إلاّ الحرّ فإنّه عدل إليه وقُتل معه.

مقتل الحرّ رضوان الله عليه:

ثُمّ إنّ ابن سعد جاء لقتال الحسين(عليه السلام) بأربعة آلاف، وانضمّ إليه الحرّ وأصحابه فصار في خمسة آلاف قال أبو مخنف وغيره: ثُمّ إنّ الحرّ لمّا زحف عمر ابن سعد بالجيوش قال: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟

قال عمر: إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.

قال الحرّ: أفما لك في واحدة من الخصال التي عرض عليك رضاً؟ فقال:

أمّا والله لو كان الأمر إليّ لفعلت، ولكن أميرك قد أبى.

فأقبل الحرّ حتّى وقف عن الناس موقفاً ومعه رجل من قومه يقال: له قرة بن قيس الرياحي، فقال له: يا قرة هل سقيت فرسك اليوم؟ قال لا! قال: فما تريد أن تسقيه؟ قال: فظننت والله أنّه يريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال، وكره أن أراه حين يصنع ذلك فيخاف أن أرفعه عليه، فقلت: أنا منطلق فأسقيه، فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه، فوالله لو أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين(عليه السلام).

فأخذ الحرّ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه وأخذه مثل العرواء، وفي رواية مثل الأفكل، فقال له المهاجر: إنّ أمرك لمريب! وما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن؟ ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال الحرّ: إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار، ووالله لا اختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وحرّقت، ثُمّ ضرب فرسه قاصدا إلى الحسين(عليه السلام) ويده على راسه وهو يقول: اللّهم إليك أنيب فتب عليّ فقد أرعبت قلوب اؤليائك وأولاد بنت نبيك، فلمّا دنا منهم قلب ترسه فقالوا: مستأمن، حتّى إذا عرفوه سلّم على الحسين وقال:جعلني الله فداك يا ابن رسول الله! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان! والله الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، فقلت في نفسي: لا أبالي أن أصانع القوم في بعض أمرهم ولا يظنّون أنّي خرجت من طاعتهم وأمّا هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم، والله لو ظننتهم لا يقبلونها منك ركبتها منك، وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي، ومواسياً لك وبنفسي حتّى أموت بين يديك، فهل ترى لي من توبة؟

قال: «نعم! يتوب الله عليك ويغفر لك فانزل».

قال: أنا لك فارساً خير منّي راجلاً أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول ما يصير آخر أمري.

قال: «فاصننع يرحمك الله ما بدا لك».

فتقدم الحرّ أمام أصحابه، ثُمّ قال: أيّها القوم! ألا تقبلون من الحسين خصلة من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟ فقال عمر: لقد حرصت لو وجدت إلى ذلك سبيلاً. فقال: يا أهل الكوفة لامكم الهبل والعبر! دعوتم ابن رسول الله وفي رواية: أدعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا جاءكم أسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثُمّ عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه في بلاد الله العريضة حتّى يأمن ويأمن أهل بيته، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وحلاتموه ونساءه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري، فها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمّداً في دينه، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه.

فحملت عليه الرجال ترميه بالنبل، فرجع حتّى وقف أمام الحسين(عليه السلام) وقال الحرّ للحسين(عليه السلام): فإذا كنت أوّل من خرج عليك فائذن لي أن أكون أوّل قتيل يقتل بين يديك لعلّي أكون ممّن يصافح جدّك محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) غداً في القيامة. هكذا في بعض الروايات.

ولا يخفى أنّ مقتضى بعض الروايات أنّه قتل جماعة قبل الحرّ، وهو المستفاد من تاريخ ابن الأثير، فلذلك حمل قوله: أوّل قتيل بين يديك، على أنّ المراد أوّل قتيل من المبارزين، ويمكن كون الحرّ أوّل المقتولين. وعدم صحة ما دلّ على خلاف ذلك، كما لعلّه يفهم من إرشاد المفيد فإنه لم يذكر أنّ أحداً تقدّم الحرّ في القتل سوى ابن عوسجة صرع قبله. قال ابن الأثير: وقاتل الحرّ بن يزيد مع الحسين قتالاً شديداً، وبرز إليه يزيد بن سفيان فقتله الحرّ وقال غيره: فحمل الحرّ على أصحاب عمر بن سعد وجعل يرتجز ويقول كما في مناقب ابن شهر آشوب وغيره:

إنّي أنا الحرّ ومأوى الضيف أضرب في أعراضكم بالسيف
عن خير من حلّ بلاد الخيف أضربكم ولا أرى من حيف

وروى أبو مخنف أنّ يزيد بن سفيان الثغري من بني الحارث بن تميم كان قال: أما والله لو رأيت الحرّ حين خرج لاتبعتّه السنان.

فبينما الناس يتجاولون ويقتتلون، والحرّ بن يزيد يحمل على القوم مقدماً ويتمثل بقول عنترة:

ما زلت أرميهم بثغرة نحره ولبانه حتّى تسربل بالدم

وأنّ فرسه لمضروب على أذنيه وحاجبيه وأنّ دماءه لتسيل إذ قال الحصين ابن تميم التميمي ليزيد بن سفيان: هذا الحرّ الذي كنت تتمنّاه، قال: نعم! وخرج إليه فقال له: هل لك يا حرّ بالمبارزة؟ قال: نعم إن شئت، فبرز له، قال الحصين: وكنت أنظر إليه فوالله لكان نفسه كانت في يد الحرّ، فخرج إليه فما لبث الحرّ أن قتله. وروى أبو مخنف عن أيوب بن مشرح الخيواني أنّه كان يقول: جال الحرّ على فرسه فرميته بسهم فحشأت فرسه، فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا، فوثب عنه الحرّ وكأنّه ليث والسيف في يده وهو يقول:

إن تعقروا بي فأنا ابن الحرّ أشجع من ذي لبد هزبر

قال: فما رأيت احداً يفري فرية، وأخذ يقاتل راجلاً وهو يقول:

آليت لا أقتل حتّى أقتلا ولن أصاب اليوم إلاّ مقبلا
أضربهم بالسيف ضرباً معضلا (مفصلا) لا ناكلاً عنهم ولا مهلّلا
لا عاجزاً عنهم ولا مبدّلا أحمي الحسين الماجد المؤمّلا

وقال ابن الأثير: قاتل الحرّ راجلاً قتالاً شديداً، وفي رواية: أنّه كان يرتجز ويقول:

إنّي أنا الحرّ ونجل الحرّ أشجع من ذي لبد هزبر
ولست بالجبان عند الكرّ لكنّني الوقاف عند الفرّ

وجعل يضربهم بسيفه حتّى قتل نيّفاً وأربعين رجلاً -على بعض الروايات-، وعلى بعضها ثمانية عشر رجلاً، وقال ابن الأثير: وحمل الحرّ وزهير ابن القين فقاتلا قتالاً شديداً، فإذا حمل أحدهما وغاص فيهم حمل الآخر حتّى يخلّصه، ففعلا ذلك ساعة، وفي ذلك يقول عبيد الله بن عمرو البدائي من بني البداء وهم من كندة:

سعيد بن عبد الله لا تنسينه ولا الحر إذا آسى على قسر

ثُمّ حملت الرجّالة على الحرّ وتكاثروا عليه، فاشترك في قتله أيّوب بن مسرح ورجل آخر من فرسان أهل الكوفة، فاحتمله أصحاب الحسين حتّى وضعوه بين يدي الحسين وبه رمق، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: أنت الحرّ كما سمّتك أمّك حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة، وفي رواية أنّه أتاه الحسين ودمه يشخب فقال: بخ بخ لك يا حرّ! أنت حرّ كما سميت في الدنيا والآخرة.

وقبر الحرّ على فرسخ من مدينة كربلاء في مشهد مزور معظّم، ولا يدري ما سبب دفنه هناك، ويدور على الألسن أن قومه أو غيرهم نقلوه من موضع المعركة فدفنوه هناك